خلال أيام حرها آن، وأنا قابع على بحث في السودان، دخل علي المشرف مشدوها، بل لولا خبرتي به لظننته معتوها؛ إذ طبيعته السكينة والوقار، فبادرني هل سمعت الأخبار؟ وما عهدته صاحب أطوار، فطالعت قسمات وجهه فإذا بالسرور يعلوها، ولم يطل بي الانتظار حتى أخذ الأخبار يتلوها، مستهلا بمسألتي عن تونس وأخبارها؟ مردفاً هروب "ابن علي" خارج أسوارها..

فقلت في نفسي لعل الشيخ نسي الأذكار، "فابن علي" لا يشق له غبار، بل هو أسوة حكوماتنا في حماية الأوكار، ولا يهمه ما تحمل من أوزار، ورث ذلك كبارا عن كبار، ولذكاء المشرف لاحظ ما أصابني، فبادر يزيح عني ما نابني، وطفق يفصل كيف هرب، وكيف رفضته العجم والعرب، حتى أشرفت طائرته على السقوط من السغب، وأرجع أصل قصته إلى شاب صفعته مجندة، قد تعودت أن الشعوب مصفدة، وأنها تصفع من حيث شاء الصافع، لا حياة ولا حياء ولا وازع، فلم يجد هذا الأبي بدا من إشعال نفسه، طلبا للتواري في رمسه، ونيابة عن شعوب أذلت بكامل أطيافها، وسملت من عيونها وجدعت من أطرافها، فاشتعلت الشرارة، واشتدت الحرارة، وتبين ما بالأنظمة العاتية من هشاشة، وأنها لا تعدو أراجيف خفاشة، وتبين زيف الدعاوى الغربية، حين تخلت عن أشد خدامها طواعية، رغم مارنها الأعوج، وأسلوبها الماكر الأهوج..

وعلى عجل صدرت تونس الثورة إلى الجوار، فتلقفتها أيدي الأحرار، وجعلها المصريون واقعا ملموسا، وأذلوا بها من كان بالحديد والنار محروسا، وأرجعوه إلى أصله بقرة غير حلوب، لا يأتي منها إلا الفجائع والكروب، ورفع الليبيون الأشاوس بالثورة الأعلام، وصدحوا بصوت الإسلام، وسقوا الدجال كأس المنون، وأظهروا عوار ادعاءات المأفون..

وطفق هذا الربيع المبارك يسري، بين اليمن والشام يجري، كلما كبا نهض، لا يلوي على غرض، يستأصل النصيرية من عرينها، والعمالة في سفينها، وقد ارتجف من ذلك المجوس، والوثنيون والهندوس، سيل لا يبقي ولا يذر، يترك الطواغيت شذر مذر، فالأولى لبقيتهم الاعتبار، وترك استمراء الإصرار، قبل أن يكونوا عبرة لآخرين، ويصيروا في عداد المحكومين..

لقد بين تيار الثائرين، ما للإسلام في قلوب المسلمين، فالتهليل والتكبير تصدح به الألسن في كل ناحية، وراية الإسلام خفاقة فوق كل ناصية، بعد ليل حالك من التغريب والإقصاء، يعم نور الإسلام الأجواء، رغم أنوف الشانئين، وكيد الكائدين وعربدة الفاسقين، واستيقظت من سباتي العميق واستعذت بالله من الغرق والغريق، وتذكرت قول القائل، وما حواه من حكم وفضائل:

خل السياسة إلى جانب
وألغ لها الحبل على الغارب
ولا تكن مغلوبا ولا غالبا
وكن ثالث المغلوب والغالب



فلله الحمد أولاً وأخرا، وله الشكر أبداً صائراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

د. أحمد ولد محمد ذو النورين
مجلة البيان