غياب النقد ساهم فى دفن التراث الثقافى السوداني
هشام آدم*
إن أول مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هى محاولة الإجابة عن الأسباب التى أدت إلى عدم انتشار الأدب السودانى كما هو الحال فى بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو أحد المعوقات الأساسية فى سبيل لقاء الأدب السودانى حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائى العالمى الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتورى اللذين هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين، إن لم نقل مدفونين، إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً إلى التغيرات المطردة فى نواحى الحياة السودانية المختلفة: اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وحتى تقنياً؛ إذ أن دور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التى تجعلها لا تعى دورها الرسالى فى حمل الثقافة والأدب على النحو الذى يجب أن تكون عليه، فتكتفى بدور الناشر والموزع السلبى على أساس ربحى ليس إلا.
وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها فى التعامل مع النصوص الأدبية هى واحدة من الركائز التى يعتمد عليها الأدب السودانى فى عملية اختراق سوق الأدب العالمي.
وأنا هنا حين أقول عالميا، لا أحصر العالمية أبداً فى القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.
إن غياب النقد هو أحد العوامل التى ساعدت على دفن التراث الثقافى السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالهم إلى النقاد لن تجدى جميع المحاولات الفردية التى يقومون بها من جلسات استماع، وقراءات، ونشر فى الشبكة العنكبوتية فى محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقي.
فمعظم الأدباء السودانيين يكتفون بنقد المتلقى غير الأكاديمى والمتمثل فى ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التى يتلقها فى ندوة أو أمسية أدبية، ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو "تيرمومتر" النقد الأدبى السوداني.
وهذا التواضع فى الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره، ودون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح سوف لن يصل الأدب السودانى إلى مرحلة التداول التى تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالى نيل الأدب السودانى الانتشار الذى يستحقه. وعليه سيظل النقد مجرد "أخوانيات" تتداول فى أروقة الأدب السودانى الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.
وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركةً يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التى قام بها الروائى الفرنسى "دو سان بول" والأديب الفرنسى "خافيير لوفان" وما قام به الشاعر "يحيى العبدلي" والدكتور "سليمان يحيى محمد" من تناول نقدى وتشريحى للأدب السودانى بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة؛ ورغم ما فى هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السودانى بجميع خصوصيته كما يجب.
وأحد من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم فى السودنة، ولا أعنى بذلك أن الحل فى سبيل ذلك هو التخلى عن التنميط المطلوب لكل أدب؛ ولكن أعنى بذلك تلك الرؤية التغزلية التى يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهى ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، فى محاولة منهم لإيهام القارئ السودانى والعربى بأن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة فى لغتها ومفرداتها، فالمتتبع لنصوص الأدب السودانى وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة التى لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالى لا يصح القول بتمثيلها لها.
إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية –حتى لا أقول أكاديمية– والأدب الحقيقى هو الذى يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع البيئى الذى يتناوله النص الأدبي: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتاريخيا وعسكريا وأمنيا وكافة المرجعيات التى قد توضح جوانب البيئة بكل دقة؛ وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التى تعمل على قتل النص الأدبى وبالتالى على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.
ودون أن نلجأ إلى الخوض فى مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هى خليط متميز من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السودانى المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجينة صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية إليها؛ متخطين بذلك ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سودانى أرحب، يكون فيه العنصر السودانى أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبى السودانى مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة.
القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقى العربى والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الأدب السودانى إن أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التى يستحقها مع نظرائه من الثقافات من الآداب الأخرى: "على المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلى جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محى الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى" وغيرهم الكثير من الأسماء التى يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.
وإذا أردنا الخوض فى واحدة من هذه المناحى الأدبية فى محاولة لتشكيل أنموذج نقدى لها، نجد الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانيين، وللوقوف على حركة الوعى والثقافة الكائنة فى مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخى أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها –دون أن نتعرض لمحاولة تقييم– أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التى ساعدت كثيراً فى التعريف بالبيئة السودانية بشكل أكثر ملاءمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبى أو المرحلة الجنينية إن جاز لى التعبير.
وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمى الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائى د. أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائى إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئى الواضح فى كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التى نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل –من حيث الحبكة الدرامية واللغوية ومقومات الرواية المعروفة– عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقى العربى أو غير السودانى بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السودانى نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن فى المبدع السودانى نفسه. الذى آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.
ثمة معضلة كبيرة وراء تفسير هذه الظاهرة –أعنى ظاهرة انزواء الانتلجنسيا السودانية- حيث أنّ كثير من الحالات يمكن بناءً عليها إنشاء تعميم مسبق بكل طمأنينة، إذ نجد أنّ الكاتب السودان يمارس -بطريقة لا إرادية- ما يشبه البناء الدفاعى بينه وبين الآخر على أساس أنّ دور الكاتب أو الأديب ينتهى فقط عند إبداع العمل الأدبي، ويبقى الوصول إلى هذا العمل هو مهمة القارئ وليس مهمته هو.
وهذا الخطأ هو ما وقع فيه العديد من الكتاب السودانيين، وربما أوعز ذلك إلى قناعات البعض بوهم اختلاف الأدب السودانى عن بقية الآداب العربية، هذا الوهم الذى يجعلنا مقتنعين تماماً بتميّزنا عن الآخرين وبتعالينا عليهم، الأمر الذى يُسهم بشكل واضح ومباشر فى خلق هذه العزلة الأدبية والثقافية، رغم أنّ المكونات الثقافية واللغوية تكاد تكون متقاربة فى جميع الدول العربية تقريباً مع احتفاظ كل دولة وكل محيط جغرافى بخصوصيته التى لا تجعله متميزاً أو مغايراً لبقية البيئات الثقافية الأخرى، إذ مما لا شك فيه أنّ هذه البيئات الثقافية تتقاطع تاريخياً بطريقةٍ أو بأخرى.
إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد –كذلك- واحداً من أهم أسباب تأخرنا فى مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية –كما يتصوّر البعض- بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية فى أسمى مقاماتها، وعمل تأريخى فى واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر فى نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً بهذا الدور الريادى للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة فى شخوص روايته.
وبهذا المفهوم الحيوى للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمى الطيب صالح؛ إذ يعتمد فيها الراوى على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة.
وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذى يحتفى فيها بالخرافات متمثلة فى شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هى فى شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافى خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب فى خبايا التراث والتاريخ، وهو ما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.
إن المهمة التاريخية الجسيمة التى تقع على عاتق المبدع السودانى والناقد السودانى هى نقل هذا التراث الأدبى الثرى إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك، متى توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبى ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.
هشام آدم*
إن أول مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هى محاولة الإجابة عن الأسباب التى أدت إلى عدم انتشار الأدب السودانى كما هو الحال فى بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو أحد المعوقات الأساسية فى سبيل لقاء الأدب السودانى حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائى العالمى الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتورى اللذين هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين، إن لم نقل مدفونين، إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً إلى التغيرات المطردة فى نواحى الحياة السودانية المختلفة: اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وحتى تقنياً؛ إذ أن دور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التى تجعلها لا تعى دورها الرسالى فى حمل الثقافة والأدب على النحو الذى يجب أن تكون عليه، فتكتفى بدور الناشر والموزع السلبى على أساس ربحى ليس إلا.
وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها فى التعامل مع النصوص الأدبية هى واحدة من الركائز التى يعتمد عليها الأدب السودانى فى عملية اختراق سوق الأدب العالمي.
وأنا هنا حين أقول عالميا، لا أحصر العالمية أبداً فى القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.
إن غياب النقد هو أحد العوامل التى ساعدت على دفن التراث الثقافى السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالهم إلى النقاد لن تجدى جميع المحاولات الفردية التى يقومون بها من جلسات استماع، وقراءات، ونشر فى الشبكة العنكبوتية فى محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقي.
فمعظم الأدباء السودانيين يكتفون بنقد المتلقى غير الأكاديمى والمتمثل فى ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التى يتلقها فى ندوة أو أمسية أدبية، ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو "تيرمومتر" النقد الأدبى السوداني.
وهذا التواضع فى الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره، ودون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح سوف لن يصل الأدب السودانى إلى مرحلة التداول التى تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالى نيل الأدب السودانى الانتشار الذى يستحقه. وعليه سيظل النقد مجرد "أخوانيات" تتداول فى أروقة الأدب السودانى الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.
وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركةً يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التى قام بها الروائى الفرنسى "دو سان بول" والأديب الفرنسى "خافيير لوفان" وما قام به الشاعر "يحيى العبدلي" والدكتور "سليمان يحيى محمد" من تناول نقدى وتشريحى للأدب السودانى بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة؛ ورغم ما فى هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السودانى بجميع خصوصيته كما يجب.
وأحد من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم فى السودنة، ولا أعنى بذلك أن الحل فى سبيل ذلك هو التخلى عن التنميط المطلوب لكل أدب؛ ولكن أعنى بذلك تلك الرؤية التغزلية التى يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهى ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، فى محاولة منهم لإيهام القارئ السودانى والعربى بأن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة فى لغتها ومفرداتها، فالمتتبع لنصوص الأدب السودانى وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة التى لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالى لا يصح القول بتمثيلها لها.
إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية –حتى لا أقول أكاديمية– والأدب الحقيقى هو الذى يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع البيئى الذى يتناوله النص الأدبي: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتاريخيا وعسكريا وأمنيا وكافة المرجعيات التى قد توضح جوانب البيئة بكل دقة؛ وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التى تعمل على قتل النص الأدبى وبالتالى على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.
ودون أن نلجأ إلى الخوض فى مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هى خليط متميز من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السودانى المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجينة صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية إليها؛ متخطين بذلك ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سودانى أرحب، يكون فيه العنصر السودانى أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبى السودانى مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة.
القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقى العربى والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الأدب السودانى إن أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التى يستحقها مع نظرائه من الثقافات من الآداب الأخرى: "على المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلى جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محى الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى" وغيرهم الكثير من الأسماء التى يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.
وإذا أردنا الخوض فى واحدة من هذه المناحى الأدبية فى محاولة لتشكيل أنموذج نقدى لها، نجد الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانيين، وللوقوف على حركة الوعى والثقافة الكائنة فى مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخى أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها –دون أن نتعرض لمحاولة تقييم– أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التى ساعدت كثيراً فى التعريف بالبيئة السودانية بشكل أكثر ملاءمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبى أو المرحلة الجنينية إن جاز لى التعبير.
وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمى الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائى د. أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائى إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئى الواضح فى كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التى نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل –من حيث الحبكة الدرامية واللغوية ومقومات الرواية المعروفة– عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقى العربى أو غير السودانى بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السودانى نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن فى المبدع السودانى نفسه. الذى آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.
ثمة معضلة كبيرة وراء تفسير هذه الظاهرة –أعنى ظاهرة انزواء الانتلجنسيا السودانية- حيث أنّ كثير من الحالات يمكن بناءً عليها إنشاء تعميم مسبق بكل طمأنينة، إذ نجد أنّ الكاتب السودان يمارس -بطريقة لا إرادية- ما يشبه البناء الدفاعى بينه وبين الآخر على أساس أنّ دور الكاتب أو الأديب ينتهى فقط عند إبداع العمل الأدبي، ويبقى الوصول إلى هذا العمل هو مهمة القارئ وليس مهمته هو.
وهذا الخطأ هو ما وقع فيه العديد من الكتاب السودانيين، وربما أوعز ذلك إلى قناعات البعض بوهم اختلاف الأدب السودانى عن بقية الآداب العربية، هذا الوهم الذى يجعلنا مقتنعين تماماً بتميّزنا عن الآخرين وبتعالينا عليهم، الأمر الذى يُسهم بشكل واضح ومباشر فى خلق هذه العزلة الأدبية والثقافية، رغم أنّ المكونات الثقافية واللغوية تكاد تكون متقاربة فى جميع الدول العربية تقريباً مع احتفاظ كل دولة وكل محيط جغرافى بخصوصيته التى لا تجعله متميزاً أو مغايراً لبقية البيئات الثقافية الأخرى، إذ مما لا شك فيه أنّ هذه البيئات الثقافية تتقاطع تاريخياً بطريقةٍ أو بأخرى.
إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد –كذلك- واحداً من أهم أسباب تأخرنا فى مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية –كما يتصوّر البعض- بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية فى أسمى مقاماتها، وعمل تأريخى فى واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر فى نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً بهذا الدور الريادى للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة فى شخوص روايته.
وبهذا المفهوم الحيوى للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمى الطيب صالح؛ إذ يعتمد فيها الراوى على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة.
وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذى يحتفى فيها بالخرافات متمثلة فى شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هى فى شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافى خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب فى خبايا التراث والتاريخ، وهو ما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.
إن المهمة التاريخية الجسيمة التى تقع على عاتق المبدع السودانى والناقد السودانى هى نقل هذا التراث الأدبى الثرى إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك، متى توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبى ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.