وقــــــــــــــال في التمباك
جاء في مقامات الحريري أن الحرث بن همام أبرز دينارًا لأعرابي وقال له إن مدحته نظمًا فهو لك حتمًا، فانبرى الأعرابي ينشد في الحال من غير إنتحالSadأكرِم به أصفر راقت صفرته. جوّاب آفاقٍ ترامت سفرته مأثورة سمعته وشهرته وحببت إلى الأنام غرته كأنما من القلوب نقرته. به يصول من حوته صرته

يا حبذا نضاره ونضرته. كم آمر به استتبت إمرته ومترف لولاه دامت حسرته وحق مولى أبدعته فطرته
لولا التقى لقلت جلت قدرته).
فأخرج الحرث بن همام دينارًا آخر وقال للأعرابي: هل لك في أن تشتمه وتذمه ثم تضمه؟ فأنشد الأعرابي مرتجلاً وشدا عجلا:
(تبًا له من خادع مماذق. أصفر ذي وجهين كالمنافق
يبدو بوصفين لعين الرامق. وحبه عند ذوي الحقائق
يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق. لولاه لم تقطع يمين سارق ولا بدت مظلمة من فاسق ولا اشمأز الرجل من طارق... وشر ما فيه من الخلائق أن ليس يغني عنك في المضايق
إلا إذا فر فرار الآبق. ومن إذا ناجاه نجوى الوامق قال له قول المحق الصادق: لا رأي في وصلك لي ففارق).

ورأينا أن نطبق الحال على التمباك كعادة شعبية متأصلة لها جذور عميقة في «كِيف» هذه الأمة فاختلف الناس كثيرًا في تحديد هوية التمباك ونظرتهم له. بعضهم يعتبره أخفَّ ضرراً من السجاير ولا يكلف الجيب كثيراً وبعضهم يعتبره قرفاً من مقارف هذه الأمة السودانية التي عليها أن تتخلص من هذا «القرف» فوراً.
فطلبنا من أخينا الدكتور عبدالله الشمباتي عضو هيئة حلمنتيش العليا أن يشكّر التمباك ثم يذمه كما فعل الأعرابي مع الحرث بن همام في مدح الدينار وذمه وعرضنا له الخمسين لنشحذ قريحته فانبرى شاعرنا ينشد في الحال ومن غير انتحال في مدح التمباك قائلاً:
ولِّف يا لساني وشكِّر التمباك
وجيب في ود عماري قصيدتك العاجباك
إن جاب النسيم ريحته وعصر هبّاك
تصطل تشتهيهو ويبقى هو عياك
*****
يعجبك منظرو الفوق الطبالي محكر
وعطرونو الحجر ماصوهو تب ما تعكر
وكتين مطرو وفركوه وات تتفكر
يملاك العجب تمرق لبيب تتشكر
*****
شنو البلحق مقامو المن غرب مجلوب
محبوب الشعوب وبلسما المطلوب
ساعة الحقة تدلق لي الحريف شخلوب
يتحكر يشوف الدنيا بالمقلوب
****
سلطان الكيوف ما بدنا إلا حريف
وما بقرب جنابو إلا عالم كيف
ياخد سفة جامدة ويعقبها الكريف
ينعدل المزاج والصيف يقلبو خريف
****
كمان الحكمة كل يوم شلن يكفيك
وكان فلسان عقاب الجرة تب لافيك
نقر الحقة من كل الألم يشفيك
والما ضاقو مغلوب ماخد إسنافيك
*****
وبنفس الحماس الذي أنشد فيه قصيدته «مشِّكرًا» التمباك.
قال وهو يشتم التمباك والذين يتعاطونه بعد أن أعطيناه خمسيناً أخرى:
قرفًا في الخشم مكضوم وسيدو يتفتف
مالي الجنبو بي بزاغو وريالتو تهتف
لا ذوق ولا شعور دايمًا عليهو مستف
حقة غليدة شيلا يشل خطاك ويكتف
****
سيد السفة ديمة عليهو خشمو يبصر
يمسك للمجالس بالحديث متقعر
إن فقد الصعوت تلقاهو تبْ متسعِّر
وخازوق إن بقيت بقادي يقعد يجعر
****
التمباك قرف لا فيه ذوق لا ظرافة
ومو إن سولو كيس لفوهو لفة قيافة
والله العظيم إن شرفولو شرافة
برضو عفن قرف لو يفتحولو صرافة
****
مصيوب البسف مجنون بدور لو فقير
بياض أسنانو بالتمباك صبح صفير
مالي الجيب وسخ والجبة حتى الزير
وكوز الموية ريحتو تخدرك تخدير
****
كمان أهل العلم جابو لنا فيه كلام
قالوا السفة بتجيب للشفاة آلام
سرطانًا عديل يا سادة يا أعلام
ما بداويهو نقرة حقة مافي كلام

وقد قمت بعملية حسابية لكمية التمباك التي تسف في ولاية الخرطوم كالآتي:
اعتاد بعض أهل السودان تعاطي «التمباك» كإدمان مسكوت عنه. ولو كان عدد سكان ولاية الخرطوم سبعة ملايين نسمة فقد قدرنا أن عدد الذين يتعاطون التمباك قد يصل إلى مليون «نسأل الله أن يغفر لنا إن كان في هذا بعض الغلواء». ولو كان الشخص يتعاطى جراماً واحداً في السفة الواحدة ويكرر هذه عشر مرات من صبحه لمسائه فإن ما يستهلكه ويبصقه على الأرض يساوي عشر جرامات ومعنى هذا أن هناك عشرة ملايين جرام هي حصيلة ما ينزل على الأرض في ولاية الخرطوم يومياً من تمباك مسفوف. وعليه فإن ما نحصل عليه في الشهر هو 300 مليون جرام تساوي «300000 كيلوجرام» أي ما يعادل ثلاثة ملايين وستمائة ألف كيلوجرام في السنة. ويكون إجمالي الذي لوث الأرض في خمس السنوات الماضية من تمباك مسفوف ومبصوق يساوي 18 مليون كيلو جرام أو 18 ألف طن. فأين تذهب هذه الآلاف من الأطنان؟ تبقى على الأرض بكميات تراكمية وتتفكك وحداتها وتختلط بذرات التربة.. والمعروف أن حجم الهبأة إذا قل عن 25 مايكرون فإنه تحت أية حركة من الهواء يرتفع إلى أعلى ويظل عالقاً بالجو وهذا ما يحدث لذرات التمباك التي تبقى في الجو ويتعرض الناس لاستنشاقها داخل رئاتهم وتبعات ذلك ازدياد حالات الربو والحساسية والأمراض الأخرى كالسل الذي ينتقل عبر الجهاز التنفسي. كما أن تلك الذرات تتسرّب إلى آلاف أزيار الماء في وحدات السبايل وسط الأحياء وإلى الرغيف المعروض مكشوفاً على قارعة الطرقات. وإلى الأطعمة المكشوفة كالشاورما والسندوتشات وغيرها من الأطعمة في الأسواق الشعبية.
وقد اخترع الإنسان السوداني التمباك وخلطه بالعطرون لـ«يمطره» ثم إخترع له «حقة» من الصفيح ليحمله في داخلها، ولكنه في غمرة اختراعاته الألمعية تلك لم يفطن إلى اختراع يمكنه من بصق السفة بعد أن تستنفد أغراضها. فأصبح الناس يبصغون السفة على جدران المكاتب الحكومية وجدران المستشفيات وأصايص الزهور والنباتات وتحت الموكيت . ولأن التمباك لا يأتي في أكياس صغيرة مثل أكياس الشاي الـ«تي باقز» فليس هناك «توم باقز» فإنني أقترح أن يشيد مصنع لتوضع فيه السفة وتكون عندنا صناديق أكياس تمباك «توم باقز» وبنفس طريقة التخلُّص من أكياس الشاي يتم التخلُّص من أكياس التمباك المثبتة بخيوط رفيعة ومعها ورقة عليها علامة «ودعماري» فنكون بذلك قد خرجنا بذلك الاختراع السوداني الخطير من المحلية إلى رحاب العالمية الواسع.
الناس لا يدركون مخاطر التمباك وهم يهتمون «بكيفهم» ولكن زيارة واحدة لطبيب أمراض جلدية أو طبيب أسنان سترى خطورة الإصابة بسرطان الفم أو اللثة أو الشفاه.
والزيادة الملحوظة في أعداد المصابين هذا إذا علمت أن تلك الزيادة تعزى إلى المضاعفات الحديثة للتمباك مع العطرون والمتمثلة في خلط محتويات حجارة البطاريات وتفريغها داخل حلة التمباك. في الزمن القديم لم تكن حجارة البطاريات تحتوي على الزئبق والكادميوم والليثيوم ولكن التطور الذي شمل حجارة البطاريات أدخل في أحشائها تلك المواد السامة المسرطنة - لا محالة.
سألت أحد الذين يخلطون التمباك:
- إنتو ليه بتضيفوا ليهو مادة حجارة البطارية؟
أجاب دون أن يرفع رأسه عن الحلة:
- عشان بتعمل لسعة خفيفة في الشفة ودي بتعدل المزاج.
على أية حال فإن التمباك اللاسع سيظل بيننا زمناً طويلاً يلسع هذا ويلبع هذا لو لم تنتظم حملة قومية توعوية لمحاربة هذه العادة الضارة.
_______________________________________
تأملات حساس محمد حساس - يكتبهـا ويرسمـها د.محمـد عبداللـه الريّح - الإنتباهة نت