البحث عن نهر قديم
إسحق أحمد فضل الله - من كتاب الشاطيء الثالث
السيد القاريء كنت أعلم أني من قدامى الضالين المضلين عند وزارة التربية والتعليم وأن المعركة بيني وبين الوزارة قد بلغت [أننا لأول مرة في تاريخ هذه الوزارة نفتح الملف (جيم) لواحد من العاملين بها حيث أن جميع المكاتبات التي تخص هذا المدرس في ملف واحد يجعل الملف غير قابل للحمل والتداول] أو كما قال هذا الباشكاتب الذي يغضب لوزارته وهو كما ترى نوع من بقايا تلك القبيلة الصلعاء المنقرضة التي كانت تؤمن بأن العمل مقدس. وأحلف أن هذا الباشكاتب نفسه هوالذي كتب الخطاب الذي بين يدى الآن والذي بلغ من حماسه ـ حماس الباشكاتب ـ أن جعل منزلي أول منزل في السودان يستقبل خطاباً بالسركي الحكومي ومن ورائه (مراسلة) حكومي (مائة في المائة) ويلبس بدلة رمادية. كان الخطاب مهذباً بارداً مثل (الموس) الجيدة تخرج كلماته من تحت الأضراس المعضوضة في حنق والعين الحمراء المترصدة. وكان الأمر كله ينبيء أن الوزارة تقدم مبرراً ـ مجرد مبرر ـ لجريمة توشك أن ترتكبها وأن الوزارة العجوز قد قررت أن تخنقني "خنقة" تخيف "حلوق" المدرسين الى يوم القيامة. ولك أن تتخيل دهشة الوزارة وهى تراني وبدلاً من أن أرفض النقل كالعادة وأعتصم بالمنزل أجمع ملابسي من الحبل ثم أقفز في لوري "قسم السيد" الذاهب الى تمبول ثم هى تشهدني العشية فوق ظهر جمل ظللت أهتز فوق سرجه الخشبي ثلاث ساعات حتى ظهرت الدمامل المائية في أماكن لايمكن ذكرها هنا. وفي الصباح الصبوح كنت أقف مع أستاذ حامد وأستاذ الضو والناظر عيسى نشهد طابور مدرسة القحيفات شرق الابتدائية وفي الطابور ست وثلاثون طالباً بالضبط هم مجموع تلاميذ المدرسة عدا التلميذ الحسين محمد ود حميدة من حلة (المطيرق) المجاورة الذي كان:
ــ "محموم ... يافندي" ...
وكل واحد هنا يعرف كل الآخرين. لكني شهدت طابور اليوم التالي وحدي تماماً حيث غاب أستاذ حامد في زيارة مهمة للمستشفى في الخرطوم والأستاذ الضو في موضوع يخص والدته المريضة، أما السيد الناظر فقد غاب دون أن يقول أي كذبة. ومن مكتبي نظرت إلى الساحة الرمادية الممتدة أمام المدرسة ومن ورائها شجيرات السنط وعشرون من الحمير الغبر تقف في صبر شديد تحت الشمس تنتظر تلاميذ (السريحة) و(عد الضان) و(مطيرق).. وعرفت أن ذلك الباشكاتب الأصلع سوف يضطر قريباً إلى فتح الملف الرابع. ــ الجرس يا فندي؟!!كان الجرس المنكفيء أمامي على التربيزة المرتفعة يرفع قبضته الخشبية بيني وبين الوجه الصغير الذي تبرز عيناه وأنفه الدقيق من وراء التربيزة الخضراء والتي التصق بها الوجه تماماً وأومأت برأسي موافقاً.. وفي الحال اختفى الجرس من مكانه وسمعت صلصلته في الخارج ولكثرة ما سمعت الجرس أصبحت له عندي لغة فصيحة أفهمها فهو يتردد مرة هادئاً ناعماً مثل المجداف في المساء الصيفي ومرة يهرج هرجاً لهوجاً ... ويصطرخ مرة كأنه قفز فوق بساط من الجمر الأحمر اللاهب... وكان رنينه الآن يتتابع في أناقة ودلال وبال رخي. وعاد الجرس إلى مكانه والوجه أيضاً إلى مكانه ملتصقاً بالتربيزة والعينان ترسلان من وراء الجرس فضولاً صريحاً إلى وجهي وتجاهلته برهة ثم..
ــ اسمك؟
ــ الحسين يافندي، الحسين أحمد ود حميدة.
ــ آه أنت كنت مريضاً أمس؟
ــ نعم يافندي.
مثل كل التلاميذ هنا كان نحيلاً ضئيلاً دقيق العظم مثل طائر برأس مكور يتوازن في دقة فوق عنق رقيق ووجه لم يشهد الماء هذا الصباح وفي العينين الفضوليتين نشاط محبوس يئز أزيزاً لينطلق ملتهماً كل شيء كأنه كان يعرف أنه لم يبق له في الحياة أكثر من أسابيع خمسة.
ــ أنت من هنا؟ ... من القحيفات؟
ــ من المطيرق يافندي... عندي الحمار الأخضر... ذاك..
وأشار في فخر إلى حمار يستحق الفخر تماماً.. وجدتني أنتبه إلى التناقض الشديد بين هذا الحيوان الذي يتفجر قوة وضخامة وبين صاحبه الهش الدقيق والذي كان يدعوني إلى الحديث وقبيل أن يخرج كنت قد عرفت نصف أخبار القرى الأربع التي تمدنا بالتلاميذ والحمير. وضحك الأستاذ حامد الذي غاب أسبوعين حينما أخبرته أني كسبت صديقاً.
ـ بهذه السرعة مبروك من هو؟
ــ الحسين ود حميدة... واختفت الضحكة ولمحت نظرة قلق خاطف في عينيه وبدا كأنه يريد أن يقول شيئاً ثم عدل عن ذلك ولما رأى نظرتي الثابتة المتسائلة قال في خفوت وهو يحاول أن يعود إلى ضحكته:
ــ على كل حال أتمنى ... أعني مباركة ياسيدي الصداقة الجديدة ... أين الولد الفراش؟ هل جاء بالفطور أم نسي كعادته. أظنك اعتدت الآن على إفطار منتصف النهار؟ولكن الناظر كان صريحاً ومباشراً حينما أخبرته بما جرى...
ــ الولد الحسين هذا غير عادي أهله كلهم عاديين أعني أمه .. فإنه لا يوجد غيرها.
ــ كيف ... غير عادي ...؟؟
ــ يجلب المصائب... بصراحة إنه مشئوم تماماً ... كل الناس يعرفون عنهم ذلك هو وأمه... وأحسست بالنفور من كلامه وبغضب يزحم صدري فجأة وطوال فسحة الفطور كان الناظر وحامد يمطرانني بحكايات لا تنتهي عن تاريخ الحسين وأمه .. كيف أن شهرتهم هذه جعلتهم معزولين تماماً عن الناس وقال الناظر في قسوة غير مبالية:
ــ إنها تستفيد لأقصى حد من هذه الشهرة في السوق فكل من تقف أمامه من البائعين يسرع بإعطائها ما تشاء لتبعد عنه حالاً .. ثم أضاف وهو يخرج للحصة الثالثة كأنه يعتذر...
ــ أنا شخصياً لا أصدق كل هذا الحديث إنهم مساكين. وفهمت لماذا ظل الصبي يحرص حرصاً عجيباً على سلوك مزدوج في تعامله معي كأنه يخفي صداقتنا عن الناس ... كان يلبس سلوكاً رسمياً صارماً حينما يجد معي رفقة .. ثم يجدني وحدي فيشع وجهه بتلك الإبتسامة المضيئة الصريحة التي لايستطيعها إلا الأطفال؛ إلى أن دلفت ذات مغيب إلى أحد الطرق الضيقة فوجدت كوماً من الصبية ينهالون في قسوة شديدة على صبي قد جثا على ركبتيه وأنشب أسنانه في ذراع واحد منهم. وتفرق الصبية عند رؤيتي وظل الحسين جاثياً على ركبتيه ينظر إلى بصورة غريبة.. وكان واضحاً أنه حزين لأنني رأيته على هذه الحال. وفي الصباح قال الناظر:
- إنهم يضربونه.. دائماً.. ذاك أصبح عادة.. الكبار والصغار يضربونه.. هل لاحظت أنه يجفل غريزياً كلما اقترب منه أحد؟!! لقد كان يأتينا شاكياً كل يوم ولكن ذلك انقطع منذ مجيئك المبارك. وقال حامد:
- لعله لايريد صديقه أن يعرف كم هو مكروه. ولم أنتبه رغم كل ذلك إلى أن الحسين كان يعيش في فزع من أن أسمع روايات الناس الرهيبة عنه وعن أمه التي لم أرها أبداً، وإلى أنه كان يجهد رأسه المكور وهو يتفحصني خلسة محاولاً أن يعرف إن كنت قد زحزحته عن المكانة التي اختلسها في نفسي قبل أن أعرف سيرته المفزعة.. ولعل شيئاً من الشك كان قد تسلل إليه فقد كان يبحث عن شيء.. كان يقاتل في استماتة للإحتفاظ بالصديق الوحيد الذي وجده أبداً. كان قد اعتاد أن يأتي في نهاية اليوم ويلتصق خلف النافذة من الخارج ويحرص على أن يظل ساكناً يرمق أستاذ حامد والناظر في حذر. وكان هو التلميذ الوحيد الذي يملك حماراً ولا يشترك في السباق اليومي المثير.. وكان يقف في مكانه ذاك، والجرس يصلصل في مرح طويل في نهاية اليوم. ووصلت إلى أذني الأصوات المعتادة ودبدبة اثنين وسبعين من الأقدام الصغيرة المتدافعة والصراخ والضحك واصطفاق الأبواب والنوافذ.. ومن مكاني رأيت الحمير تدور في مرابطها في هياج والتلاميذ يتدافعون نحوها في بداية السباق اليومي الطريف كان بعضهم قد وصل إليها فعلاً واعتلاها وظل يدور في مكانه ليعطي فرصة أمينة لبقية المتسابقين.. وتدافع الذين لايشتركون في السباق من النوافذ وحامد يتكلم كعادته بلسانه ويديه وجسمه كله ويجعل الضحك والإثارة تغمرك غمراً. كان السباق قد بدأ فعلاً حين التفت إلى الحسين الواقف تحت النافذة وصرخت دون وعي:
- ألا تشترك في السباق يا حسين؟ لديك حمار جيد.
ولمعت عيناه فجأة وكنت قد نسيته في اللحظة التالية وأنا أتابع السباق حينما لمحته منكباً على الحبل يحاول أن يطلق حماره ويعالج العقدة التي جعلها هياج الحيوان القوي، صلبة تماماً؛ يلهث وأصابعه النحيلة تنغرس في عقدة الحبل المتوتر. التفت نحوي في لمحة سريعة ... وعلمت في لحظة أنه يقاتل الآن كل الدنيا حتى لا يتحول استعراضه الى هزيمة محزنة.. وأحسست بانقباض شديد وأنا أراه قد قوس جسده النحيل إلى الأمام وغاص في جلبابه المنتفخ وبرزت مؤخرة رأسه المكور فبدأ مثل طائر غريب. انفلت الحبل فجأة وأكبر الظن أن الحيوان القوي قد تمكن من قطعه، ورأيت طرف الحبل ينتفض في الهواء منثنياً مثل الحية المهتاجة. كانت مجموعة المتسابقين المتزاحمة المندفعة قد أثارت سحابة سميكة من الغبار وقريباً من النافذة اندفع الحيوان المتفجر قوة ونشاطاً والحسين قد لف ساعديه حول العنق وهو يحاول أن يصل بقدمه إلى ظهر الحمار والقوائم القوية تلطم جسده في تتابع عنيف والجسد الهش يهتز ويرتجف ثم ينفلت ويختفي في الغبار. للحظات تعثرت الحوافر الصلبة فوق الجسد ثم رأيت الحيوان يعتدل ثم يندفع في قوة هادرة وهو يهز ذيله وينهق ... ومن موجة الغبار انفلت الصبي وقد استماتت يداه على الحبل والحيوان يجره وراءه دون جهد. كان قد جمع يديه والحبل الى صدره وبدأ كأنه يمسك الحبل بأسنانه ورأيت الجسد ينقلب مرات ويصطدم بنتوء فوق الأرض صغير ورأيت الجسد يستطيل مثل الخرقة الثقيلة المبتلة، والحوافر الهادرة تكيل عليه الغبار واللطمات في اندفاعها المجفل. لا أحد يذكر كيف حدث ذلك كله في لحظات ... ولكني شعرت في اللحظة التالية بالأرض تلطم وجهي بقوة وأنا أسقط خارج النافذة وحامد يجري في جنون وهو يزأر بشيء غير مفهوم، ورأيت أجساداً وتدافعاً ولا أعلم حتى الآن أى قوة هى تلك التي أوقفت اندفاع الحيوان المجنون. ولكن كنت بعد لحظات أتابع أيدي كثيرة تحاول في عجلة واختلاط أن تفك الحبل الذي كان قد جمع الذراعين النحيلتين والعنق الدقيق في عقدة التفت مرات ومرات.. كانت الأصابع مبسوطة ومتشنجة والوجه مختلطاً كله تحت التراب وشيء من البلل وخيط غليظ من الدم ينحدر من الأنف.. وحين امتدت يد ومسحت الوجه انفلتت دمعة من تحت الجفون المغمضة وانحدرت قليلا تجاه الأذن ثم توقفت هناك. دفناه بعد العصر ... الحلة كلها خرجت وراء النعش كأنها تعتذر .... أمه سارت وراء الناس حتى القبر. عزيزي القاريء .. أكتب إليك الآن لأن السيد الجالس هناك لن يقرأ خطابي هذا فهو قد أقسم ألا يسمع مني شيئاً بعد الملف الرابع، ولأنني كذلك لا أستطيع أن أقول له إنني أطلب نقلي من هنا لأن الحسين قد ذهب. "ومن يكون الحسين هذا ياهذا ؟؟!!"أكتب لك وحقيبتي بجانبي وكان آخر ما وضعته فيها كراسة كتب على ظهرها [مدرسة القحيفات الابتدائية ... اسم التلميذ الحسين محمد ود حميدة.[
إسحق أحمد فضل الله - من كتاب الشاطيء الثالث
السيد القاريء كنت أعلم أني من قدامى الضالين المضلين عند وزارة التربية والتعليم وأن المعركة بيني وبين الوزارة قد بلغت [أننا لأول مرة في تاريخ هذه الوزارة نفتح الملف (جيم) لواحد من العاملين بها حيث أن جميع المكاتبات التي تخص هذا المدرس في ملف واحد يجعل الملف غير قابل للحمل والتداول] أو كما قال هذا الباشكاتب الذي يغضب لوزارته وهو كما ترى نوع من بقايا تلك القبيلة الصلعاء المنقرضة التي كانت تؤمن بأن العمل مقدس. وأحلف أن هذا الباشكاتب نفسه هوالذي كتب الخطاب الذي بين يدى الآن والذي بلغ من حماسه ـ حماس الباشكاتب ـ أن جعل منزلي أول منزل في السودان يستقبل خطاباً بالسركي الحكومي ومن ورائه (مراسلة) حكومي (مائة في المائة) ويلبس بدلة رمادية. كان الخطاب مهذباً بارداً مثل (الموس) الجيدة تخرج كلماته من تحت الأضراس المعضوضة في حنق والعين الحمراء المترصدة. وكان الأمر كله ينبيء أن الوزارة تقدم مبرراً ـ مجرد مبرر ـ لجريمة توشك أن ترتكبها وأن الوزارة العجوز قد قررت أن تخنقني "خنقة" تخيف "حلوق" المدرسين الى يوم القيامة. ولك أن تتخيل دهشة الوزارة وهى تراني وبدلاً من أن أرفض النقل كالعادة وأعتصم بالمنزل أجمع ملابسي من الحبل ثم أقفز في لوري "قسم السيد" الذاهب الى تمبول ثم هى تشهدني العشية فوق ظهر جمل ظللت أهتز فوق سرجه الخشبي ثلاث ساعات حتى ظهرت الدمامل المائية في أماكن لايمكن ذكرها هنا. وفي الصباح الصبوح كنت أقف مع أستاذ حامد وأستاذ الضو والناظر عيسى نشهد طابور مدرسة القحيفات شرق الابتدائية وفي الطابور ست وثلاثون طالباً بالضبط هم مجموع تلاميذ المدرسة عدا التلميذ الحسين محمد ود حميدة من حلة (المطيرق) المجاورة الذي كان:
ــ "محموم ... يافندي" ...
وكل واحد هنا يعرف كل الآخرين. لكني شهدت طابور اليوم التالي وحدي تماماً حيث غاب أستاذ حامد في زيارة مهمة للمستشفى في الخرطوم والأستاذ الضو في موضوع يخص والدته المريضة، أما السيد الناظر فقد غاب دون أن يقول أي كذبة. ومن مكتبي نظرت إلى الساحة الرمادية الممتدة أمام المدرسة ومن ورائها شجيرات السنط وعشرون من الحمير الغبر تقف في صبر شديد تحت الشمس تنتظر تلاميذ (السريحة) و(عد الضان) و(مطيرق).. وعرفت أن ذلك الباشكاتب الأصلع سوف يضطر قريباً إلى فتح الملف الرابع. ــ الجرس يا فندي؟!!كان الجرس المنكفيء أمامي على التربيزة المرتفعة يرفع قبضته الخشبية بيني وبين الوجه الصغير الذي تبرز عيناه وأنفه الدقيق من وراء التربيزة الخضراء والتي التصق بها الوجه تماماً وأومأت برأسي موافقاً.. وفي الحال اختفى الجرس من مكانه وسمعت صلصلته في الخارج ولكثرة ما سمعت الجرس أصبحت له عندي لغة فصيحة أفهمها فهو يتردد مرة هادئاً ناعماً مثل المجداف في المساء الصيفي ومرة يهرج هرجاً لهوجاً ... ويصطرخ مرة كأنه قفز فوق بساط من الجمر الأحمر اللاهب... وكان رنينه الآن يتتابع في أناقة ودلال وبال رخي. وعاد الجرس إلى مكانه والوجه أيضاً إلى مكانه ملتصقاً بالتربيزة والعينان ترسلان من وراء الجرس فضولاً صريحاً إلى وجهي وتجاهلته برهة ثم..
ــ اسمك؟
ــ الحسين يافندي، الحسين أحمد ود حميدة.
ــ آه أنت كنت مريضاً أمس؟
ــ نعم يافندي.
مثل كل التلاميذ هنا كان نحيلاً ضئيلاً دقيق العظم مثل طائر برأس مكور يتوازن في دقة فوق عنق رقيق ووجه لم يشهد الماء هذا الصباح وفي العينين الفضوليتين نشاط محبوس يئز أزيزاً لينطلق ملتهماً كل شيء كأنه كان يعرف أنه لم يبق له في الحياة أكثر من أسابيع خمسة.
ــ أنت من هنا؟ ... من القحيفات؟
ــ من المطيرق يافندي... عندي الحمار الأخضر... ذاك..
وأشار في فخر إلى حمار يستحق الفخر تماماً.. وجدتني أنتبه إلى التناقض الشديد بين هذا الحيوان الذي يتفجر قوة وضخامة وبين صاحبه الهش الدقيق والذي كان يدعوني إلى الحديث وقبيل أن يخرج كنت قد عرفت نصف أخبار القرى الأربع التي تمدنا بالتلاميذ والحمير. وضحك الأستاذ حامد الذي غاب أسبوعين حينما أخبرته أني كسبت صديقاً.
ـ بهذه السرعة مبروك من هو؟
ــ الحسين ود حميدة... واختفت الضحكة ولمحت نظرة قلق خاطف في عينيه وبدا كأنه يريد أن يقول شيئاً ثم عدل عن ذلك ولما رأى نظرتي الثابتة المتسائلة قال في خفوت وهو يحاول أن يعود إلى ضحكته:
ــ على كل حال أتمنى ... أعني مباركة ياسيدي الصداقة الجديدة ... أين الولد الفراش؟ هل جاء بالفطور أم نسي كعادته. أظنك اعتدت الآن على إفطار منتصف النهار؟ولكن الناظر كان صريحاً ومباشراً حينما أخبرته بما جرى...
ــ الولد الحسين هذا غير عادي أهله كلهم عاديين أعني أمه .. فإنه لا يوجد غيرها.
ــ كيف ... غير عادي ...؟؟
ــ يجلب المصائب... بصراحة إنه مشئوم تماماً ... كل الناس يعرفون عنهم ذلك هو وأمه... وأحسست بالنفور من كلامه وبغضب يزحم صدري فجأة وطوال فسحة الفطور كان الناظر وحامد يمطرانني بحكايات لا تنتهي عن تاريخ الحسين وأمه .. كيف أن شهرتهم هذه جعلتهم معزولين تماماً عن الناس وقال الناظر في قسوة غير مبالية:
ــ إنها تستفيد لأقصى حد من هذه الشهرة في السوق فكل من تقف أمامه من البائعين يسرع بإعطائها ما تشاء لتبعد عنه حالاً .. ثم أضاف وهو يخرج للحصة الثالثة كأنه يعتذر...
ــ أنا شخصياً لا أصدق كل هذا الحديث إنهم مساكين. وفهمت لماذا ظل الصبي يحرص حرصاً عجيباً على سلوك مزدوج في تعامله معي كأنه يخفي صداقتنا عن الناس ... كان يلبس سلوكاً رسمياً صارماً حينما يجد معي رفقة .. ثم يجدني وحدي فيشع وجهه بتلك الإبتسامة المضيئة الصريحة التي لايستطيعها إلا الأطفال؛ إلى أن دلفت ذات مغيب إلى أحد الطرق الضيقة فوجدت كوماً من الصبية ينهالون في قسوة شديدة على صبي قد جثا على ركبتيه وأنشب أسنانه في ذراع واحد منهم. وتفرق الصبية عند رؤيتي وظل الحسين جاثياً على ركبتيه ينظر إلى بصورة غريبة.. وكان واضحاً أنه حزين لأنني رأيته على هذه الحال. وفي الصباح قال الناظر:
- إنهم يضربونه.. دائماً.. ذاك أصبح عادة.. الكبار والصغار يضربونه.. هل لاحظت أنه يجفل غريزياً كلما اقترب منه أحد؟!! لقد كان يأتينا شاكياً كل يوم ولكن ذلك انقطع منذ مجيئك المبارك. وقال حامد:
- لعله لايريد صديقه أن يعرف كم هو مكروه. ولم أنتبه رغم كل ذلك إلى أن الحسين كان يعيش في فزع من أن أسمع روايات الناس الرهيبة عنه وعن أمه التي لم أرها أبداً، وإلى أنه كان يجهد رأسه المكور وهو يتفحصني خلسة محاولاً أن يعرف إن كنت قد زحزحته عن المكانة التي اختلسها في نفسي قبل أن أعرف سيرته المفزعة.. ولعل شيئاً من الشك كان قد تسلل إليه فقد كان يبحث عن شيء.. كان يقاتل في استماتة للإحتفاظ بالصديق الوحيد الذي وجده أبداً. كان قد اعتاد أن يأتي في نهاية اليوم ويلتصق خلف النافذة من الخارج ويحرص على أن يظل ساكناً يرمق أستاذ حامد والناظر في حذر. وكان هو التلميذ الوحيد الذي يملك حماراً ولا يشترك في السباق اليومي المثير.. وكان يقف في مكانه ذاك، والجرس يصلصل في مرح طويل في نهاية اليوم. ووصلت إلى أذني الأصوات المعتادة ودبدبة اثنين وسبعين من الأقدام الصغيرة المتدافعة والصراخ والضحك واصطفاق الأبواب والنوافذ.. ومن مكاني رأيت الحمير تدور في مرابطها في هياج والتلاميذ يتدافعون نحوها في بداية السباق اليومي الطريف كان بعضهم قد وصل إليها فعلاً واعتلاها وظل يدور في مكانه ليعطي فرصة أمينة لبقية المتسابقين.. وتدافع الذين لايشتركون في السباق من النوافذ وحامد يتكلم كعادته بلسانه ويديه وجسمه كله ويجعل الضحك والإثارة تغمرك غمراً. كان السباق قد بدأ فعلاً حين التفت إلى الحسين الواقف تحت النافذة وصرخت دون وعي:
- ألا تشترك في السباق يا حسين؟ لديك حمار جيد.
ولمعت عيناه فجأة وكنت قد نسيته في اللحظة التالية وأنا أتابع السباق حينما لمحته منكباً على الحبل يحاول أن يطلق حماره ويعالج العقدة التي جعلها هياج الحيوان القوي، صلبة تماماً؛ يلهث وأصابعه النحيلة تنغرس في عقدة الحبل المتوتر. التفت نحوي في لمحة سريعة ... وعلمت في لحظة أنه يقاتل الآن كل الدنيا حتى لا يتحول استعراضه الى هزيمة محزنة.. وأحسست بانقباض شديد وأنا أراه قد قوس جسده النحيل إلى الأمام وغاص في جلبابه المنتفخ وبرزت مؤخرة رأسه المكور فبدأ مثل طائر غريب. انفلت الحبل فجأة وأكبر الظن أن الحيوان القوي قد تمكن من قطعه، ورأيت طرف الحبل ينتفض في الهواء منثنياً مثل الحية المهتاجة. كانت مجموعة المتسابقين المتزاحمة المندفعة قد أثارت سحابة سميكة من الغبار وقريباً من النافذة اندفع الحيوان المتفجر قوة ونشاطاً والحسين قد لف ساعديه حول العنق وهو يحاول أن يصل بقدمه إلى ظهر الحمار والقوائم القوية تلطم جسده في تتابع عنيف والجسد الهش يهتز ويرتجف ثم ينفلت ويختفي في الغبار. للحظات تعثرت الحوافر الصلبة فوق الجسد ثم رأيت الحيوان يعتدل ثم يندفع في قوة هادرة وهو يهز ذيله وينهق ... ومن موجة الغبار انفلت الصبي وقد استماتت يداه على الحبل والحيوان يجره وراءه دون جهد. كان قد جمع يديه والحبل الى صدره وبدأ كأنه يمسك الحبل بأسنانه ورأيت الجسد ينقلب مرات ويصطدم بنتوء فوق الأرض صغير ورأيت الجسد يستطيل مثل الخرقة الثقيلة المبتلة، والحوافر الهادرة تكيل عليه الغبار واللطمات في اندفاعها المجفل. لا أحد يذكر كيف حدث ذلك كله في لحظات ... ولكني شعرت في اللحظة التالية بالأرض تلطم وجهي بقوة وأنا أسقط خارج النافذة وحامد يجري في جنون وهو يزأر بشيء غير مفهوم، ورأيت أجساداً وتدافعاً ولا أعلم حتى الآن أى قوة هى تلك التي أوقفت اندفاع الحيوان المجنون. ولكن كنت بعد لحظات أتابع أيدي كثيرة تحاول في عجلة واختلاط أن تفك الحبل الذي كان قد جمع الذراعين النحيلتين والعنق الدقيق في عقدة التفت مرات ومرات.. كانت الأصابع مبسوطة ومتشنجة والوجه مختلطاً كله تحت التراب وشيء من البلل وخيط غليظ من الدم ينحدر من الأنف.. وحين امتدت يد ومسحت الوجه انفلتت دمعة من تحت الجفون المغمضة وانحدرت قليلا تجاه الأذن ثم توقفت هناك. دفناه بعد العصر ... الحلة كلها خرجت وراء النعش كأنها تعتذر .... أمه سارت وراء الناس حتى القبر. عزيزي القاريء .. أكتب إليك الآن لأن السيد الجالس هناك لن يقرأ خطابي هذا فهو قد أقسم ألا يسمع مني شيئاً بعد الملف الرابع، ولأنني كذلك لا أستطيع أن أقول له إنني أطلب نقلي من هنا لأن الحسين قد ذهب. "ومن يكون الحسين هذا ياهذا ؟؟!!"أكتب لك وحقيبتي بجانبي وكان آخر ما وضعته فيها كراسة كتب على ظهرها [مدرسة القحيفات الابتدائية ... اسم التلميذ الحسين محمد ود حميدة.[