المـــقـهى
إسحق أحمد فضل الله - من كتاب الشاطيء الثالث
تحت شمس الصباح المجموعات كانت تجلس في مقاعدها بدقة أمام المقهي .. خمسة رجال فوق السبعين والشاب الذي يضع قدمه فوق كومة من المطبوعات هو منغمس في قراءة لا تنتهى. وشئ مقلق يجعلك تشعر أنه لا يقلب الصفحة أبداً، وأستاذ يبدو أنه تقاعد العام الماضي بعد صراخ غاضب، وأنه يجلس هنا لأنك تستطيع رؤية المدرسة من المقهي ومتابعة كل شىء بدقة .. وكان هناك ثلاثة رجال آخرون. وكانت بقية المقاعد الخالية دائماً تؤدي واجبها في أمانة مقاعد المقهي العتيدة وحين جلست هبط صاحب المقهى بجسده الضخم النشط في المقعد المقابل ثم شرع في صب الشاي لي ولنفسه كما يفعل كل صباح.
قلت:
- أراك تصنع الشاي لي ولك فقط.
قال:
- انك تنطلق بسرعة حسب قوانين المقهي هذا .. ومادمت قد وصلت الى هذه النقطة فسوف يصبح لهم سادس عن قريب.
ولما كانت يداه مشغولتين فقد أشار بذقنه الى الرجال الخمسة في الطرف البعيد من المقهى الذين كان أحدهم يجلس علي مقعد أحمر ينظرون صامتين الى الطريق.
قلت:
- كلهم قالوها لك ذات يوم ؟؟ .
قال:
- تقريبا
- والشاب ... الذي يقرأ .. ؟
- يطلب السفر ... ويأتي كل يوم منذ فترة ...
- فترة ؟؟
- منذ عشر سنوات أو خمس عشرة ...
غرابة ووضوح كل شىء في المقهي تحت شمس الصباح الشتائي يجعلان كل شىء مقبولاً وفيه قلق عذب خفيف.
قلت :
- ولماذا لا يسافر ... ؟
قال:
- مادام يجد ما يريده هنا فلماذا يسافر ؟؟
- وماذا يجد هنا ... ؟؟
- ما يواجه به الدنيا ... ليست الدولارات الامريكية فقط هي ما تواجه به المعركة الآن، كلهم يعرفون ذلك، هناك شىء أجمل وأكثر حلاوة حتى من المواجهة والانتصار في المعركة.
قلت كأننى أدفعة الى شرك قريب:
- وهو ..؟؟
قال وهو دهش من جهلي:
- وهو ألا تكون هناك معركة على الاطلاق!!
قالها وهو ينهض كأنه يضع أمامي كل رواد المقهي الصامتين برهاناً لا ينقض على قوله....
كأنني انتقم قلت بسرعة:
- فلماذا يظل الشاب اذن يقول انه يريد السفر ؟؟
قال ساخراً:
- لماذا ترتدي أنت سراويلك ؟؟
عند العصر كنت ما أزال في دهشتي الغاضبة لأنه اختار كلمة سراويل حين قال لي العجوز الذي يجلس على المقعد الأحمر ..:
ـ صاحب المقهي قال لك أننا تماثيل صامته ؟؟
كنا في منعطف الطريق ونحن ننصرف من المقهي وقبل أن أجد أجابه تدفع الحرج قال العجوز وعيونه تضحك في مرح : (أنا أصمم ماكينة .. ماكينة جديدة... العالم ـ نعم ..لم يبق فيه شىء لم يكتشف لكن ماكينتي تصلح هنا .. أنا فرغت منها تقريباً .. فرغت من صناعتها فعلاً ). صاحب المقهي كان قد حدثني طويلاً عن هذا الرجل وعن ماكينته الوهمية وعن زوجة العجوز الآخر التي تذيقه عذاباً طويلاً منذ أن كان شاباً ... قلت في ضيق لصاحب المقهي حين استمر يصف سموم زوجة العجوز : (لماذا لا يطلقها إذن ؟)
قال :
- لولا الأولاد لطلقها
قلت وأنا اضبطه :
- لكنك قلت أنه بلا أولاد
قال ببساطة:
- نعم ..كلنا يعرف ذلك .. وهو يعلم هذا
كأنه يؤنبني مضي يقول : ( لكن الذي لاتعرفه أنت أنه لكل عجوز حكاية تخصه .. ) وهو يحدث نفسه سمعته يقول : ( يهدهدها .. ويمسح جلدها ويناغيها .. يخاف عليها تماماً. ) كأنه تذكر شيئاً قال لي : ستعرف حين تنتقل الى المقعد الأحمر ..
قلت ضاحكاً: اطمئن .. بيني وبين المقعد الأحمر خمسون عاماً .. فأنا الآن في الثلاثين .. يوم أصل الى هناك تكون أنت ومقهاك في .. في مكان آخر ..
كأن الإشارة المتعثرة الى الموت هي التي جعلتني أقول : لماذا تحتفظ بالمقهى بعد أن أغلق المستشفى الذي كان يمدك بالزبائن؟
كأن خفير المستشفى في الجانب الآخر كان ينتظر أن ننتبه اليه ليشرع في جلد مساعده الصبي الصغير بقسوة شديدة والصبي يصرخ في لوعة.
- ( مثل كل يوم .. ) قالها صاحب المقهى في سأم .. لكن الجلد توقف فجأة وتوقف غليان الصراخ عندما قفز صاحب عربة الكارو على عربته وهو يغني بإيقاع الدراويش والطبل
الرزق مكتوب مقسم
للبداقش وللمعسم
كاتل المسكين دا فوق كم ؟؟
موجة من الحنان والرقة الغامرة أثارها الصوت المبحوح والخفير بدا كأنه يبحث عن مكان يخمش فيه اللحظات الفائتة الحرجة ويلملمها مثل من يجمع ملاءة متسخة ويداريها..
عند العصر كنت أنتظر العجوز صاحب المعقد الأحمر لنشرع في الإنصراف عندما خرج صاحب عربة الكارو بعربته من المنعطف مندفعاً بالعربة وهو ينهال على الحصان بالجلد في قسوة راعدة .. حين عبر بنا كان الحصان الهائل المندفع تحت لهيب الصوت والعربة والضجيج يذوبون في غبار ساخن .. لكن وجه خفير المستشفى على الجانب الآخر وما بدا عليه هو كل ما كان يشغلني في تلك اللحظة.
لم أفهم لماذا شغلني وجه الخفير حتى وصلنا منعطف الطريق.
من ورائنا فجأة انطلق صراخ الغلام وأزيز السوط.
لسبب غريب ودون مقدمات.. الخفير كان قد أمسك بالغلام وجعل ينهال عليه بالجلد الممزق في غيظ غريب .. صباح اليوم التالي لعله كان هو الصباح الوحيد الذي شهد رواد المقهى متزاحمين في دائرة صغيرة ووجوههم الى أسفل وتحت أرجلنا كان العجوز صاحب المقعد الأحمر الذي سقط فجأة ميتاً .. وكأن صاحب المقهي رأى في عيوني أننى لم أنم الليل كله حين قال وهو يصب لي الشاي: وأنا أيضا لم أنم لقد رأيت ما رأيته أنت .. حتى الهواء توقف بغتة للحظات لكن خيط الشاي الأحمر استمر ينزلق هابطاً في كوبي واستمر صاحب المقهي يقول : أول مانظرت اليه في تلك اللحظة بعد أن رأيت أيدي العجوز الميت هو وجهك أنت وتأكدت أنك رأيت ما رأيته أنا في أيدي العجوز .. وأنك فهمت .. وكنا قد دفنا العجوز صباح أمس .. قلت وصرختى تختنق مثلما تختنق الصرخة في الكابوس المفزع : رأيت ماذا ؟؟
قال : أنت و أنا وكلنا رأينا الشحم الأسود في كف العجوز .. زيت الماكينة وصدأ الحديد وكل ما يبقى في أيدي الذين يتعاملون مع الحديد والماكينات .. كف العجوز الناعمة البيضاء ظهرعليها فجأة كل شىء بعد لحظة الموت مباشرة كأنه يقول لنا .. يقول لنا.. نهض وهو يحمل ابريق الشاي لكنه استمر يقول في خبث ..
- يقول لنا ماذا ؟؟ قلت وأنا أشعر برعب هائل مكتوم.
- لعله كان يعمل فعلاً وكان لديه ماكينة فعلاً.
قال وعيونه باردة : لكنك تعرف أن هذا ليس صحيحاً وأنه لم يمس ماكينة في حياته.
- كلهم يعرفون
وأشار الى العجائز الصامتين والمقعد الأحمر.
قلت ومعدتي ترتفع من الخوف: لا أعرف ولا أريد أن أعرف عليك لعنة الله.
قال وهو يهمس في حقد انتقامي غريب: بل أنت تعرف أردت أم لم ترد.
جلوسي على المقعد الأحمر بين العجائز الأربعة لم يدهشهم. أما أنا فقد كنت أريد أن أعرف حكاية العجوز الذي مات فجأة وحكاية الشحم على يديه والماكينة.
الرجال الأربعة ظلوا يحدثوني في همس منظم رتيب وكل منهم يستمع للآخر بدهشة من يسمع الحديث لأول مرة ثم يستأنف الحديث حين يسكت الآخر. وكان ما قالوه لي هو ذاته ما قاله صاحب المقهي . كأنني ألوذ بهم وأتجنب صاحب المقهى.. بعد المشاحنة ظللت أعود الى المقعد الأحمر كل يوم بدلاً عن مقعدي المعتاد ... فكرت في الانقطاع عن المقهى بعد ان انتهت مهمتي . معدتي ارتعدت مرة أخرى حين عجزت أن اذكر السبب الذي جاء بي الى المقهى أول مرة والسبب الذي جعلني أتردد عليه.
كل الذي أعرفه هو أننى كنت أنتظر شيئاً أو أحداً أو سفراً.. أو لعلني كنت أنظر الى شىء يمكن مراقبته من المقهى ومتابعته بدقة ... وجدت في نفسي يقينا غريباً أن ذات الشىء يشعر به كل واحد من العجائز الأربعة ... شيء صغير آخر جعلني لا أرفع عيوني أبداً بعد ذلك الى صاحب المقهى فكل واحد من العجائز الأربعة قال لي ذات مرة فى حديث عابر أنه كان في سني أنا حين جاء الى هنا لأول مرة ... وأن صاحب المقهى الشاب الضخم كان في سنه هذه.. في سنه الآن.
إسحق أحمد فضل الله - من كتاب الشاطيء الثالث
تحت شمس الصباح المجموعات كانت تجلس في مقاعدها بدقة أمام المقهي .. خمسة رجال فوق السبعين والشاب الذي يضع قدمه فوق كومة من المطبوعات هو منغمس في قراءة لا تنتهى. وشئ مقلق يجعلك تشعر أنه لا يقلب الصفحة أبداً، وأستاذ يبدو أنه تقاعد العام الماضي بعد صراخ غاضب، وأنه يجلس هنا لأنك تستطيع رؤية المدرسة من المقهي ومتابعة كل شىء بدقة .. وكان هناك ثلاثة رجال آخرون. وكانت بقية المقاعد الخالية دائماً تؤدي واجبها في أمانة مقاعد المقهي العتيدة وحين جلست هبط صاحب المقهى بجسده الضخم النشط في المقعد المقابل ثم شرع في صب الشاي لي ولنفسه كما يفعل كل صباح.
قلت:
- أراك تصنع الشاي لي ولك فقط.
قال:
- انك تنطلق بسرعة حسب قوانين المقهي هذا .. ومادمت قد وصلت الى هذه النقطة فسوف يصبح لهم سادس عن قريب.
ولما كانت يداه مشغولتين فقد أشار بذقنه الى الرجال الخمسة في الطرف البعيد من المقهى الذين كان أحدهم يجلس علي مقعد أحمر ينظرون صامتين الى الطريق.
قلت:
- كلهم قالوها لك ذات يوم ؟؟ .
قال:
- تقريبا
- والشاب ... الذي يقرأ .. ؟
- يطلب السفر ... ويأتي كل يوم منذ فترة ...
- فترة ؟؟
- منذ عشر سنوات أو خمس عشرة ...
غرابة ووضوح كل شىء في المقهي تحت شمس الصباح الشتائي يجعلان كل شىء مقبولاً وفيه قلق عذب خفيف.
قلت :
- ولماذا لا يسافر ... ؟
قال:
- مادام يجد ما يريده هنا فلماذا يسافر ؟؟
- وماذا يجد هنا ... ؟؟
- ما يواجه به الدنيا ... ليست الدولارات الامريكية فقط هي ما تواجه به المعركة الآن، كلهم يعرفون ذلك، هناك شىء أجمل وأكثر حلاوة حتى من المواجهة والانتصار في المعركة.
قلت كأننى أدفعة الى شرك قريب:
- وهو ..؟؟
قال وهو دهش من جهلي:
- وهو ألا تكون هناك معركة على الاطلاق!!
قالها وهو ينهض كأنه يضع أمامي كل رواد المقهي الصامتين برهاناً لا ينقض على قوله....
كأنني انتقم قلت بسرعة:
- فلماذا يظل الشاب اذن يقول انه يريد السفر ؟؟
قال ساخراً:
- لماذا ترتدي أنت سراويلك ؟؟
عند العصر كنت ما أزال في دهشتي الغاضبة لأنه اختار كلمة سراويل حين قال لي العجوز الذي يجلس على المقعد الأحمر ..:
ـ صاحب المقهي قال لك أننا تماثيل صامته ؟؟
كنا في منعطف الطريق ونحن ننصرف من المقهي وقبل أن أجد أجابه تدفع الحرج قال العجوز وعيونه تضحك في مرح : (أنا أصمم ماكينة .. ماكينة جديدة... العالم ـ نعم ..لم يبق فيه شىء لم يكتشف لكن ماكينتي تصلح هنا .. أنا فرغت منها تقريباً .. فرغت من صناعتها فعلاً ). صاحب المقهي كان قد حدثني طويلاً عن هذا الرجل وعن ماكينته الوهمية وعن زوجة العجوز الآخر التي تذيقه عذاباً طويلاً منذ أن كان شاباً ... قلت في ضيق لصاحب المقهي حين استمر يصف سموم زوجة العجوز : (لماذا لا يطلقها إذن ؟)
قال :
- لولا الأولاد لطلقها
قلت وأنا اضبطه :
- لكنك قلت أنه بلا أولاد
قال ببساطة:
- نعم ..كلنا يعرف ذلك .. وهو يعلم هذا
كأنه يؤنبني مضي يقول : ( لكن الذي لاتعرفه أنت أنه لكل عجوز حكاية تخصه .. ) وهو يحدث نفسه سمعته يقول : ( يهدهدها .. ويمسح جلدها ويناغيها .. يخاف عليها تماماً. ) كأنه تذكر شيئاً قال لي : ستعرف حين تنتقل الى المقعد الأحمر ..
قلت ضاحكاً: اطمئن .. بيني وبين المقعد الأحمر خمسون عاماً .. فأنا الآن في الثلاثين .. يوم أصل الى هناك تكون أنت ومقهاك في .. في مكان آخر ..
كأن الإشارة المتعثرة الى الموت هي التي جعلتني أقول : لماذا تحتفظ بالمقهى بعد أن أغلق المستشفى الذي كان يمدك بالزبائن؟
كأن خفير المستشفى في الجانب الآخر كان ينتظر أن ننتبه اليه ليشرع في جلد مساعده الصبي الصغير بقسوة شديدة والصبي يصرخ في لوعة.
- ( مثل كل يوم .. ) قالها صاحب المقهى في سأم .. لكن الجلد توقف فجأة وتوقف غليان الصراخ عندما قفز صاحب عربة الكارو على عربته وهو يغني بإيقاع الدراويش والطبل
الرزق مكتوب مقسم
للبداقش وللمعسم
كاتل المسكين دا فوق كم ؟؟
موجة من الحنان والرقة الغامرة أثارها الصوت المبحوح والخفير بدا كأنه يبحث عن مكان يخمش فيه اللحظات الفائتة الحرجة ويلملمها مثل من يجمع ملاءة متسخة ويداريها..
عند العصر كنت أنتظر العجوز صاحب المعقد الأحمر لنشرع في الإنصراف عندما خرج صاحب عربة الكارو بعربته من المنعطف مندفعاً بالعربة وهو ينهال على الحصان بالجلد في قسوة راعدة .. حين عبر بنا كان الحصان الهائل المندفع تحت لهيب الصوت والعربة والضجيج يذوبون في غبار ساخن .. لكن وجه خفير المستشفى على الجانب الآخر وما بدا عليه هو كل ما كان يشغلني في تلك اللحظة.
لم أفهم لماذا شغلني وجه الخفير حتى وصلنا منعطف الطريق.
من ورائنا فجأة انطلق صراخ الغلام وأزيز السوط.
لسبب غريب ودون مقدمات.. الخفير كان قد أمسك بالغلام وجعل ينهال عليه بالجلد الممزق في غيظ غريب .. صباح اليوم التالي لعله كان هو الصباح الوحيد الذي شهد رواد المقهى متزاحمين في دائرة صغيرة ووجوههم الى أسفل وتحت أرجلنا كان العجوز صاحب المقعد الأحمر الذي سقط فجأة ميتاً .. وكأن صاحب المقهي رأى في عيوني أننى لم أنم الليل كله حين قال وهو يصب لي الشاي: وأنا أيضا لم أنم لقد رأيت ما رأيته أنت .. حتى الهواء توقف بغتة للحظات لكن خيط الشاي الأحمر استمر ينزلق هابطاً في كوبي واستمر صاحب المقهي يقول : أول مانظرت اليه في تلك اللحظة بعد أن رأيت أيدي العجوز الميت هو وجهك أنت وتأكدت أنك رأيت ما رأيته أنا في أيدي العجوز .. وأنك فهمت .. وكنا قد دفنا العجوز صباح أمس .. قلت وصرختى تختنق مثلما تختنق الصرخة في الكابوس المفزع : رأيت ماذا ؟؟
قال : أنت و أنا وكلنا رأينا الشحم الأسود في كف العجوز .. زيت الماكينة وصدأ الحديد وكل ما يبقى في أيدي الذين يتعاملون مع الحديد والماكينات .. كف العجوز الناعمة البيضاء ظهرعليها فجأة كل شىء بعد لحظة الموت مباشرة كأنه يقول لنا .. يقول لنا.. نهض وهو يحمل ابريق الشاي لكنه استمر يقول في خبث ..
- يقول لنا ماذا ؟؟ قلت وأنا أشعر برعب هائل مكتوم.
- لعله كان يعمل فعلاً وكان لديه ماكينة فعلاً.
قال وعيونه باردة : لكنك تعرف أن هذا ليس صحيحاً وأنه لم يمس ماكينة في حياته.
- كلهم يعرفون
وأشار الى العجائز الصامتين والمقعد الأحمر.
قلت ومعدتي ترتفع من الخوف: لا أعرف ولا أريد أن أعرف عليك لعنة الله.
قال وهو يهمس في حقد انتقامي غريب: بل أنت تعرف أردت أم لم ترد.
جلوسي على المقعد الأحمر بين العجائز الأربعة لم يدهشهم. أما أنا فقد كنت أريد أن أعرف حكاية العجوز الذي مات فجأة وحكاية الشحم على يديه والماكينة.
الرجال الأربعة ظلوا يحدثوني في همس منظم رتيب وكل منهم يستمع للآخر بدهشة من يسمع الحديث لأول مرة ثم يستأنف الحديث حين يسكت الآخر. وكان ما قالوه لي هو ذاته ما قاله صاحب المقهي . كأنني ألوذ بهم وأتجنب صاحب المقهى.. بعد المشاحنة ظللت أعود الى المقعد الأحمر كل يوم بدلاً عن مقعدي المعتاد ... فكرت في الانقطاع عن المقهى بعد ان انتهت مهمتي . معدتي ارتعدت مرة أخرى حين عجزت أن اذكر السبب الذي جاء بي الى المقهى أول مرة والسبب الذي جعلني أتردد عليه.
كل الذي أعرفه هو أننى كنت أنتظر شيئاً أو أحداً أو سفراً.. أو لعلني كنت أنظر الى شىء يمكن مراقبته من المقهى ومتابعته بدقة ... وجدت في نفسي يقينا غريباً أن ذات الشىء يشعر به كل واحد من العجائز الأربعة ... شيء صغير آخر جعلني لا أرفع عيوني أبداً بعد ذلك الى صاحب المقهى فكل واحد من العجائز الأربعة قال لي ذات مرة فى حديث عابر أنه كان في سني أنا حين جاء الى هنا لأول مرة ... وأن صاحب المقهى الشاب الضخم كان في سنه هذه.. في سنه الآن.