كلمة عن شعر الشاعر صلاح احمد ابراهيم للأستاذ الدكتور عبدالله الطيب
قرأت فى زمان مضى كلمة للاستاذ صلاح احمد ابراهيم رحمه الله فى احدى المجلات او كتيب ( لا اذكر على وجه التحديد ) بعنوان ((ماتوا سمبلة )) احسبها كانت مقالة كقصة او قصة صغيرة كمقالة ، وصف فيها جنوبيا ( لم يحدد قبيلته ولكن يغلب الظن انه من الاستوائية ) بيده أدأة موسيقية يترنم بها ويغنى بين حين وحين (( ماتوا سمبلة )) .
و ((سمبلة )) هذه تحريف للكلكة الانجليزية simple وكأن الاصل جملة انجليزية they simple died صاغها الجنوبى المترنم أو توهمها أو سمعها أو صيغت له ، أى ذلك كان ، وليست فى غنائه وترنمه معنى (( ماتوا همله )) كما نقول فى اللسان العامى أو بلا سبب أو دافع ، وكأن القاتل قتلهم بل (( غبينة )) . ماتوا سمبلة كما يموت النمل يقتله الولد الصغير بإ صبعه ، أو كما يقتل الذباب ، ماتوا سمبلة .
فى المقالة حزن شديد عميق وفيه دموع كأنها تجرى من موسيقا الجنوبى وترنمه . كأن هذا الجنوبى نفسه يرثى القتلى (( سمبلة )) بلوعة ويعلم انه هو وقومه ضيعوا حياة هؤلاء القوم بلا سبب . كانوا يظنونهم صقورا جارحة فاذا هم ذباب يعصرونه ويهصرونه ويفطس . أثرت فى نفسى تللك المقالة. احسست فيها رقة بالغة .
قرأت لصلاح من شعره من بعد ، وأسفت لأنه ترك الوزن الرصين الذى فى مدحه لصهره الشفيع احمد الشيخ رحمه الله :
ياشعبا إن أبدى الجبان خضوعا
لا تيأسن فقد ولدت شفيعا
وقد ذكر فى مقدمة هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارىء الكريم انه نظم هذه الابيات العينية وهو ابن عشرين وهى سن العمر الحلوة كما قال شكسبير Sweet and Twenty فلعله لو استمر على هذا النسق ان يلحق بطبقة التيجانى رحمه الله لما هاهنا من رصانة وجودة نغم ، لكن صلاحا رحمه الله آثر ما سماه المعاصرون (( الشعر الحديث ))
هذا الشعر الحديث ادعى إختراعه والسبق اليه جماعة . أدعت نازك الملائكة السبق اليه واختراعه فيمن سبقوا اليه واخترعوه . وهذا عجيب لانها استشهدت بأبيات الناقوس المنسوبة الى على كرم الله وجهه :
يا ابن الدنيا مهلا مهلا
وهى ابيات عدة . ويكون على هذا سيدنا علىٌ اخترع وزن التفعيلة لا نازك . والحق ان انواع الوزن واللاوزن كثيرة وسبق اليها كثيرون منذ نشأ شعر العرب . وممن ينسب اليهم السبق والاختراع بدر شاكر السياب ، والبياتى ، ونزار قبانى . والحقيقة ونحن فى السودان الاسود ألوان بشرة عربه سبقناهم – سبقنا هؤلاء الذين ادعوا السبق أو أدعى لهم . وقد ذكرت فى بعض ما كتبت ان ابا بكر أحمد موسى ، الاستاذ الأديب البارع رحمه الله ، كان يخترع اوزانا يحاكى بها أحيانا نغمات الطيور وزقزقات العصافير .
وقد كنت معجبا بأغانى شكسبير وكانت لدينا فى كلية غوردون اسطوانات مثل : It was a Lover and Lass
ومثل :Come away come away death
ومع ان عددا من خطب مشهورات رواياته كان مقررا علينا وكنا به معجبين ، ما كنت ( مع ما كان يقال لنا انه شعر مرسل ) أراه إلا نثرا . وقد وجدت استاذ الانجليزية بجامعة الخرطوم من بعد البروفيسور ليفى يرى ذلك ايضا ، لكن زملاؤه قالوا انه يهودى ، ولا ادرى ما صلة هذه العنصرية بالنقد . هذا وكان الشعر الانجليزى الموزون لا يعجبنى لضعف وزنه ، ولفتنى احد زملائى النجباء الى جمال قصيدة أو مقطوعة قنطرة وستمنستر لورد زورث التى درَسها لهم المستر هارت ، وكان حريصا على تحبيب طلبته فى الشعر الانجليزى ولم تعجبنى أول الامر ، لكنى حملت نفسى على الاعجاب بها وبسائر ما تلقيناه من شعر وردزورث ، ثم اقبلت على محاولة النظم المرسل وألاوزان المختلفة على طريقة شوقى فى مسرحياته ، ثم على اوزان كالمخترعة أو كالحرة .ثم بعد هذه الفتنة الشبابية أعرضت إعراضا عن التفعيلات السائبة وما بمجراها . وأذكر إذ كتب الىٌ المرحوم محمد عبد الحى ، وهو يعد رسالة الدكتوراة بجامعات بريطانيا ، يسأل عن امر هذه المحاولات ليزعم أنها أسبق من محاولات من ادعوا السبق الى الشعر الحر من المعاصرين ثم كان قد صح عنده انه لا فائدة فى هذه المغالطات التى لا تخلو من بعض نوع من العصبية ، إلا تكن عصبية قبلية فلعلها شبيهة بعصبيات أتيام الكرة ونعراتها القومية .
مع توجه صلاح رحمه الله نحو الشعر الحر الحديث أبى النغم البارع الرصين القديم إلا ان ينبثق من أسطره الجياد . لاسيما نغم بحر الرمل كما فى قوله :
يا ذكى العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظى
وبنيران لها ألف لسان تتلظى
ضع على ضوئك فى الناس اصطبارا ومآثر
مثلما ضوع فى الاهوال صبرا آل ياسر
فلئن كنت كما أنت عبق
فاحترق
وان شئت ألحقت (( فأحترق )) (( بعبق )) بعد فاصل ما . المعانى واضحة ، مشرقة مأخوذة من مصدرين معروفين فى حياتنا اليومية الى عهد قريب : الاول عمل الريحة للعرس والطهارة – يدق الصندل أو الكليت والشاف أو ما عسى ان يكون من حطب الطيب . والمصدر الثانى حطب الوقود (( لتقابة )) الخلوة والقرآن . والحطب يجمع من الغابات وأشجار القرية ، ثم يكسر بالفأس وكلاهما – خشب الطيب وخشب وقود التقابة – يعرض للنار فتشتعل ، ومجمر البخور قد يوضع فيه اللبان وسواه ، وحطب التقابة ترتفع السنة نيرانه وتستضى بها الحلقة التى حولها من الحيران .
وكلمة ضوع فى قوله (( مثلما فى الاهوال صبرا )) قد تلمس فيها فتجده معنى ضوَع الذى للطيب وللبخور ومعنى ضوَا بتشديد الواو الذى من الضوء بقلب الهمزة عينا على اللهجة الشائعة فى كثير من كلام اهلنا .
الافتتان فى قوله :
فلئن كنت كما انت عبق
فاحترق
قمة فى حسن التعبير وإصابة عين الثور Bull`s eye كما يقال بالانجليزية من اساليب الطفرة التعبيرية . وتوضيح ذلك من ان البخور تزكو رائحته بالاحتراق كما هو معلوم ، وكما اشار اليه حبيب بن اوس ( أبو تمام ) فى قولته المشهورة :
وإذا اراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
فالشاعر هنا يقول للمجاهد المناضل الصابر الحسن الاعمال (( أنت عطر فائح الطيب بعملك ، ولكن ذكاء عطرك يفوح حقا حين يحترق . لذلك فاحترق يا أيها الطيب العبق الرائحة لكى تفوح وينتشر طيبك ))
وولئن كنت كما انت عبق ،
فاحترق
وفى النغم انبهار ومفاجأة . ولذلك يجوز الوجهان – فاصل بعد عبق ، وتكتب ( فاحترق ) فى نفس السطر . أو تكتب فى السطر الذى يلى – فإنها بيت شعر كامل . لأن الوقفة عند آخر الشطر الفائت طويلة تعادل أكثر من نصف شطر ، وتكون بقوله (( فاحترق )) شطرا تاما .
وتأمل بعد قوله :
- مثلما ضوع فى الاهوال صبرا آل ياسر – هنا اشارة ثقافية اسلامية شديدة الوغول فى بحبوحة الاسلام . آل ياسر مثل عال فى الصبر والاستشهاد . حتى عمار المجاهد التواب المهاجر ، ( وقد ولاه عمر ) ، لم يسلم من الاذى ، وقد قتل شهيدا فى صفين . وفطن شوقى الى هذا فى قوله :
وأوقع الأنجاد بالأنجاد وخر عمَار من النجاد
وممن فطن من قبل زمان شوقى ، الوزير الاندلسى ابن عبدون حيث قال فى رائيته المشهورة
وما رعت لأبى اليقظان صحبته
ولم تزوده غير الضيح فى الغمر
والضمير يعود على الليالى وعلى صروف ألزمان وأحواله ، وابو اليقظان هوعمار ابن ياسر ، والضيح بالضاد المشددة المفتوحة بعدها ياء ساكنة ( يا مثناة تحتية ) أى اللبن ، آخر الكلمة حاء مهملة ، الغمر بالغين المعجمة المضمومة بعدها ميم وراء بوزن عمر أى القداح الصغير .
فى شعر صلاح إشارات إسلامية السنح ، قوية منبثقة بلا تكلف من أصول معانيه وعواطفه وإنفعالاته – كقوله:
حزننا ونحن الصامتون
فابطشى ما شئت فينا يا منون
كم فتى فة مكة يشبه حمزة
ولم يفجع الرسول صلى الله عليه وسلم بأوجع من مقتل حمزة ، وقال الكلمة المشهورة ، لما رأى نساء الانصار يندبن من قتل فى احد من رجالهن : (( ولكن حمزة لا بواكى له )) فأقبلن يبكين حمزة ، وقال شاعرهم :
صفية قومى ولا تعجزى وبكٌى النساء على حمزة
والاشارة الاسلامية غير ما قدمنا كثيرة فى شعر صلاح رحمه الله – مثلا :
وضمير لم يذق ، والشعب فى السبى ، اغتماضه
وبقلب كحجيج محرما عند الإفاضة
ومثلا:
ونزوع للذى خلف الحجاب
برهة من سرمد الدهر اقمنا
ما عرفنا بم أو فيم اتينا وانتهينا
الشاهد هنا ( نزوع للذى خلق الحجاب أى الغيب كما فى سورة الشورى ) نظره الى قول زياد (( فى الزمن السرمدى الذى لا يزول – واصل هذا قرآنى من سورة القصص . ومثلا :
وآل على حفاة ظماء
وآل زياد عليهم نعيم
وآل زياد فيهم سفاح وفجور وظلم ، وذكر المؤرخون ان غناهم إستمر الى الزمن العباسى فتأمل .
وفى هذه الكلمة نفسها :
ويا فارسا وحده فى الطريق
على الرمح نازف الجرح مات
بعد أن أمٌن الخائف
هذا الفارس هو احد الصناديد الاربعة المذكورين المشهود لهم بالتفوق فى الشجاعة ، هو ربيعة بن مكدٌم حامى الظعن ، رموه بسهم فاتكأ على رمحه والفرسان يتحاشونه حتى سلمت النساء من السباء . والخبر مذكور مشهور ، من بنى كنانة من بنى فراس بن غنم الذين تمنى سيدنا على أن لو كان معه منهم مائة فارس مكان العصاة المتمردين الذين كانو حوله .
لا عجب من استكثار صلاح من الشواهد والاشارات الدالة على تأثره بثقافة السيرة والدين ونوادر الادب العربى ، فقد نشأ فى دار ثقافة اسلامية وكان أبوه رحمه الله من اساتذة العربية والدين ، معلما شديد التقوى ، غضيض الطرف ، معروفا بذلك مشهودا له فيه .
وقال صلاح يفتخر ببعض ذلك فى قريضه :
نترك الدنيا وفى ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
وولاء حينما يكذب اهله الامين
ويكذب اهليه اخذها بلا ريب من الحديث (( ان الرائد لا يكذب اهله )) ولا احسب صلاحا خرج عن مجال الاسلامية والعربية فى اشاراته إلا فى موضع اشار فيه الى الصليب. وحمل الصليب ، دلالة على احتمال التعذيب والمشقات فى مواجهة النهاية والمأساة ، كثير فى اشعار العصر المتأثرة بأساليب الإفرنج . كان المستر تشرشل يعبر عن تبرمه وضيقه بالجنرال ديجول بقوله ان اثقل صليب كان يحمله هو صليب اللورين ، وهو شعار ديجول ، اصله من مأساة جان دارك ، التى حررت فرنسا ، وخذلها الملك شارل السابع ولم يحاول نجدتها لما حرقت فى روان .
واصل معنى حمل الصليب من اساليب جبروت الروم القدماء ، فإنهم كانو حين يحكمون بإعدام امرىء صلبا يجعلون الصليب من خشبتين ، خشبة قائمة عمودية يحفرون لها حفرة ويثبتونها فيها قائمة ويكلفون المحكوم عليه بحمل الخشبة الثانية التى تجعل معترضة فوق الخشبة القائمة ، ثم يسمرون يديه على الخشبة المعترضة ، التى جاء وهو يحملها ، يجعلونها على رأس العمود كحرف ( تى ) الافرنجى ، ويدخلون المسامير بين عظمى اليد عند الرسغ ويخترقون عظام القدمين بجعل المسامير بين العظيمات الصغيرة التى فى القدم ، وقد وضعوا قدما فوق الاخرى ، وسمروهما معا على الخشبة القائمة .
وزعم النصارى ان الروم صلبوا المسيح بتدبير اليهود . وفى القرآن الكريم (( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )) . وينسب الى بعض المسلمين المتأولين انهم قالواهذا . كمثل قوله تعالى (( وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى )) فالمعنى هنا ان الله هو الذى قتله وصلبه لا هم . وهذا خطأ . اية الانفال ( 17 ) (( وما رميت اذ رميت )) لا تنفى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قذف حفنة التراب وقال شاهت الوجوه ، ولكن تدل على ان رسول الله كانت معها سطوة الله . وهذا كمثل قوله : (( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم )) أى قوة الله وعونه مع اخلاصهم والعهد الذى عاهدوه . ولم يقل الله عز وجل (( وما قتلوه إذ قتلوه وما صلبوه إذ صلبوه ولكن شبه لهم )) كما قال عز وجل (( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )) فلاية دالة دلالة قاطعة على ان عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، والذى تأوله المتأول على تمثيل آية النساء ( 157 ) (( وما قتله )) (( بأية الانفال )) (( وما رميت )) تمثيل خاطىء بلا شك بلا ادنى شك .
وما أرى ان صلاحا قصد إليه ولكن سار على المألوف من عبارات أهل العصر مسايرين لعبارات الإفرنج فى هذا المجال ، وبين يدى عشرات من دواوين أهل العصر ترد فيها عبارة حمل الصليب كما ترد عبارة (( كودتا )) فى اللغة الانجليزية و (( ويكند )) فى اللغة الفرنسية وهذا تقريب للفكرة على بعدها .
مصدر مهم من مصادر الاشارة والمجاز فى بيان صلاح رحمه الله هو عادات اهلنا وتقاليدهم .وهذا واضح فى القصيدةالتى اعجبت صديقه على المك رحمه الله . وبعض هذه القصيدة ينظر نظرا شديدا الى منظومات الموت التى ينشدها المداح مثل :
زايلة الدنيا الما بدوم لى خيرا
ولت واديرت وبقت عصيرا
ويذكروننا ان مصير الانسان الى حفرة عرضها شبر .
ما الذى اقسى من الموت ؟
فهذا قد كشفنا سره وخبرنا مره
ما جزعنا ان تشهاناولم نرض الرحيل
( احسبها ولم نرض لا ولم يرض بالنون لا بالياء كما فى النص المطبوع )
فله فينا اعتباق واصطباح ومقيل
آخر العمر قصير أم طويل
كفن من طرف السوق وسبر فى المقابر
هذا موضع استشهادنا على الأخذ من تقاليد البلد وعاداته . ولنا فى الدفن أسلوب بعضه مأخوذ من السنة التى كان عليها عمل أهل المدينة وبها دفن رسول الله صلى اللع عليه وسلم ، وبعضه مأخوذ من عادات وطننا القديم فى أيام ما قبل الميلاد حسب تاريخ علماؤ الآثار الى عصر طويل بعده – من ذلك الحمل على العنقريب والتغطية بالسرتى . واول من دفن على عنقريب ( نعش ) من اهل الاسلام سيدتنا زينب بنت جحش . اشارت بحملها عليه سيدتنا أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها ، قالت رأت النعش بأرض الحبشة التى هاجر اليها الصحابة سيدنا جعفر وسيدنا عثمان ومن معهم ، هى هذه البلاد لا بلاد اكسوم وقندار ، لأنهم لا يحملون الميت على العنقريب
شاهد آخر قصيدة صلاح فى رثاء على المك ، رحمهما الله ، وقوله ( اغتباق واصطباح ومقيل ) مأخوذ من اصطلاحات العرب الأوائل لشراب الصبح والليل والقيلولة – استعمل صلاح كلمة المقيل للدلالة على القيل ، فقد جاء بها مناحة واستعمل فيها البكاء التى نبكى بها :
على شريك النضال على رفيقى
ويا خندقى فى الحصار ويا فرجى وقت ضيقى
ويا صرة الزاد تمسكنى فى اغتماض الطريق
ويا ركوتى كعكعت فى لهاتى وقد جف ريقى
على زراعى اليمين على خريفى
ونيلى وجرفى وبهجة ريفى
ولا يخفى ان خندقى فى الحصار(( مأخوذة من خبر السيرة وغزوة الاحزاب فى السنة الخامسة من الهجرة )) .
ذهب صلاح رحمه الله الى غانا مدرسا ، وأحسب ان من اسباب ذهابه اليها قد كان بعض الاعجاب بيسارية قوامى نكروما دعوته الشاملة يرجو بها نهضة افريقيا السوداء . واحسب ان صلاحا وجد فى غانا شيئا ترك فيه اثرا عميقا للغاية ، زعزع عنده اليسارية العربية التى كانت امرا مثاليا رائجا فى سنوات الخمسين والستين الذى وجده فى غانا هو اسلام غرب افريقيا – اسلام يختلط بالشخصية فتنصهر فيه وينصهر فيها . اسلام له اعتزاز يقاوم به تعالى العنصرية الافرنجة وغزوة التبشير الصليبى . إسلام فيه صوفية وزهد وبساطة وقوة وتحد ، و راجع فى اصوله لا الى الفتوح وصراع الخلافة والسنة والشيعة والشراة لكن الى اهل الصفة و أويس القرنى وسعيد بن المسيب ومعروف الكرخى ورابعة العدوية وعبد الرحمن التكرورى وعبد السلام بن مشيس ومختار الكنتى ومقاومة التجانية والقادرية للغرب المستعمر المسترق .
قال لى محمد المدنى الامريكى الافريقى فى مدينة لوس انجلوس عام 1982 فى ديسمبر وكان ذلك فى احتفالات المولد النبوى 1412ه (( أنا التمس اثبات نفسى ووجودها بالاسلام لا التمس اى كسب سياسى أو اقتصادى ، اريد ان اكون بشرا هو انا ، أحترم نفسى من حيث كينونة البشرية . يمكننى ان اكون بلا اسلام مليونير اسود أو اى شى طبقى كبير اسود ولكن مع ذلك اكون انا مسلوب البشرية . بالاسلام تكون بشريتى موجبة )) هذا الايجاب لبشرية الشخص محسوس ملموس فى اسلام غرب افريقية . ولما ثار بعض المستعبدين فى امريكا الجنوبية فى منتصف القرن الماضى ثورة مفاجئة ، وكانوا من اطوع العبيد واصبرهم على العمل ، استغرب سادتهم ، ثم اكتشفوا كتابات يديرونها بينهم على الواح ، واستشاروا فيها الكنيسة ، فأخبرهم الفاتيكان انها كتابات تعاليم صلوات اسلامية ، وان الصواب من التصرف هو التخلص منهم حالا وبسرعة بارسالهم فى سفن الى شاطىء غرب افريقية . وكان السلطان محمد بلو وأصحابه يطمعون ان يصل الاسلام الى شاطىء بلادهم الغربى ن ولكن كانوا يعلمون ان هناك سفن النصارى بنيرانها وسطوتها – فقد ارسل الآن النصارى رقيقهم المسلمين الى نفس الشاطىء ليتخلصوا منهم ومن دينهم .
لاشك ان صلاحا – رحمه الله – تأثر بروح هذا الاسلام وقوته غبر المتكلفة التى احسها الغرب فى غرب افريقية . الاسلام عندنا فى السودان قوى و بسيط وانسانى المساواة . ولكن جاءنا اسلام حضارى معقد عن طريق محمد على باشا ، ومن طريق مذاهب مخلتفة الاهواء فى بلاد الشرق العربى وغير العربى التى قال عها رسولنا صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته : ( اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ) ، ووصفها عمر بن الخطاب لحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما بأنها فتنة تموج كموج البحر .
أذكر لما كنت بانجلترا ، اعد لدرجات شهاداتها ، ان منزل حركة الطلاب فى شارع غاور كان يعج باليساريين على مذاهب غرب اوروبا وشرقها وبين ذلك ، وكانوا كلهم ينصرون دعوة الصهيونية على شكاوى العرب بحجة ان العرب اقطاعيون متاخرون . وكان معنا طلبة من غرب افريقية ، فكان الميل الى جانب بنى قريظة عندهم كما كان عندى امرا منكرا . ( من العجب أنه كلما بلغنى من عالم بالامر ان قد ولد قوامى نكروما صغيرا مسلما فى ناحية (( كماسى )) من ساحل الذهب ، واختطف ، ونصر ، ومع ذلك يسر وهذا عند المبشرين لا يناقض الصليبية ، وصار عدوا لإسلام غرب افريقية وتآمر سرا وجهرا ضد قادته ، وكان مقتل احمد بلو وأصحابه هدفا – ولكن هذا باب آخر لا انصرف اليه الآن .
رحمة الله على علىّ المك وعلى صلاح كليهما . آخر عهدى بصلاح فى مربد بغداد آخر سنة 89 م أو 88 م – اذكر اشراق وجهه وحديثه الكريم المشجع المتفائل المناصر – كان ذلك آخر العهد به ، وبعد زمان غير بعيد منه كانت وفاة على المك وموقفنا عند صندوق جنازته فى مقابر البكرى .
ثم بعد مدة غير طويلة وأقرب الى ان تكون جد قصيرة قضى صلاح نحبه ولم ينتظر – وكنت ارجو ان ألم به وأحييه فى بعض غدواتى وروحاتى الى مطار باريس فى طريقى الى بلاد المغرب الاقصى رحم الله صلاحا – شعره رنان وقوافيه حسان ، فال رحمه الله :
ان بى شوقا الى الشعر الذى احمله رمحا طويلا ومجنا
(( كربيعة بن مكدم ))
ان بى شوقا الى القافية الحسناء كالصهباء ادنيها لكم دنا فدنا
ناء شعرى بالذى كان حمل
من رزايانا و ابياتى فى المهد صبية
لصلاح نغم متين مستقيم رصين فى بحرى الرمل والمتقارب والاول اكثر . وانتهى رثاؤه لعلى المك رحمهما الله بقولة :
مضيت وخلقت لى ترحة كأن للمنية عندى ثأر
وغورت فى مهجتى فرحة اذا ما ذكرتك ذات إعتصار
وهذه المرارات فى شفتى كهذى الدموع الغزار الحرار
وطيفك يخطر فى مقلتى بحنظل حلواى ليل نهار
وهذا هو النغم الذى اقبل الخليل على تحليله وفك طلاسمه معجبا مفتونا برنات التفاعيل فحسب ابنه إذ سمعه يرددها انه مجنون- الشعر موسيقا العرب منذ الازل القديم ، حتى قابيل حين قتل هابيل نسب اليه الرواة انه رثى ابنه بقصيدة عربية .
لعل صلاحا رحمه الله تأثر ببعض نظم استاذه كاتب هذه السطور وذلك إن صح ما افخر به واتشرف – مات لى اخ يدعى (( حسنا )) ابن ست سنين غريقا وزعم الاستاذ الجامعى محمد يوسف مصطفى الواثق انى اقمت له مناحات فى ديوان شعرى . فى اصداء النيل فى طبعته الاولى سنة 1975م :
حبذا خبزا بر كدال ومبيض اللبن
بيعك الماضى من عمرك بالآن غبن
ولقد احزننى ان خيط فى الدار الكفن
مثلما احزننى ان قطف الموت حسن
ودياب قرع الطبل فدوى ورطن
والفتى المادح قد رقق صوتا و لحن
وفى (( نافذة القطار )) طبعته الاولى سنة 1964م ص 46 / 147 :
وقد تحدر من عينى وقد قرأت
كتاب معناه دمع قطره سخنا
إذ فارقته قريبا إذ يقول لها
لما دعته ذرينى العين هنا
إذ كان يلعب حرا إذ تربص لل
عصفور إذ خلقه صل الردى كمنا
يا للاقدار ؛ ؛
كاد يسيل دمعى وانا اقرأ فى ( مرثية بعد خمسين عاما لطفل اسمه حسن ) فى هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارىء الكريم :
مات والأهل جميعا فى فرح
بختانى – حسن لم يختن
مات فى يوم كمن
شبح الموت له فى الملعب
جره من يده قدامنا نثلا بدائيا وقح
لم يتح لى منه الا حسوات
شعشعتنى ثم اهريق القدح
اين حسن
اين حسن
قال تعالى (( كل نفس ذائقة الموت وانما توفون اجوركم يوم القيامة )) . وأقرأ (( دعاء الطفل المظلوم )) فهى مرثية للشفيع ، رحمه الله جعلها دعاء إبنه المظلوم :
يتيم من الضيم يبكى بكى وهو عارف
بكى رافعا يديه رافعا صوته غير خائف
بكى قبل ان يتعلم إلا حروف كلمة بابا
يرددها وهو ينظر بابا
مضى الجند منه وفيهم ابوه
الى غير رجعة
يردد ما ليس ينسى
وفى العين دمعة
رحمهم الله جميعا – ونسأل الله العفو والرحمة والغفران، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
عبد الله الطيب المجذوب