تقديم: هذا هو الجزء الرابع في مقال جون أودال المؤرخ البريطاني المتخصص في "الشأن السوداني" و المنشور في المجلة البريطانية "الدراسات السودانية" (العدد 38 بتاريخ يوليو 2008) عن التاريخ المبكر لقبيلة الشكرية و عن زعمائها من "آل أبو سن". في الأجزاء الثلاثة الفائتة تحدث الكاتب عن تاريخ الشكرية المبكر و عن زعيمها شيخ عوض الكريم محمد الشهير بأبي علي (1775 – 1779) و من تلاه من آل أبو سن حتي الشيخ/ أحمد عوض الكريم.

أحمد عوض الكريم و أحمد باشا ودان:

أستدعي أحمد عوض الكريم أبو سن للخرطوم ليكون في معية وفد كبار الشخصيات السودانية التي دعيت للتشرف بلقاء الخديوي في نوفمبر من عام 1838/1254. و بعد مرور نصف عام علي ذلك اللقاء واجه أحمد باشا أبو ودان تمردا في بربر قاده جماعة من الشايقية إحتجاجا علي عدم التزامه بتعهد سابق كان قد قطعه لهم سلفه الحاكم السابق خورشيد بإعفاء الشايقية من دفع ضرائب و عوائد علي أرضي كانوا قد وضعوا أيديهم عليها بعد أن هجرها أصحابها الجعليين عقب حملة الدفتردار الإنتقامية. أصر أحمد باشا أبو ودان علي موقفه الرافض لإعفاء الشايقية من الضرائب و العوائد فثاروا عليه بقيادة حمد المك (من فصيل العامراب؟) و خربوا و أحرقوا كل ما صادفهم من زراعة و محاصيل و انسحبوا جنوبا من البطانة أرض الشكرية. قيل أن أحمد عوض الكريم أبو سن كان قد حذر الحاكم أبو ودان من خطورة تواجد المك حمد و أهله في مناطق نظارته و قام في ذات الوقت بتحذير المك حمد من أن أحمد باشا أبو ودان سيقوم ( و بمعونة مك الشايقية الآخر كمبال) بشن هجوم كاسح عليه. و لعل هذا هو ما مكن المك حمد من التصدي بنجاح لهجوم أحمد باشا أبو ودان في شندي قبل أن ينسحب مع ثلة من مناصريه إلي مناطق قريبة من الحدود الحبشية (حيث سبقه اليها من قبل مك الجعليين نمر) و من هنالك ظل مصدر خطر مستمر علي أحمد باشا أبو ودان.

عالج أحمد باشا أبو ودان الأمر بحكمة و روية و استطاع بحكمة و مشورة وواسطة شيخ عبد القادر الزين و شيخ أحمد عوض الكريم أبو سن من أن ينهي تمرد المك حمد حيث أصدر أمرا بالعفو عنه و سمح له بالعودة دون سؤال أو حساب في نوفمبر من عام 1839 للخرطوم، و التي غادرها بعد حين إلي شندي ثم إلي دنقلا، و سمح لجماعته الشايقية بتملك أراضي الجعليين التي هجروها بعد حملة الدفتردار الإنتقامية دون دفع ضرائب أو عوائد.

كانت تلك وساطة حكيمة موفقة تلك التي قادها أحمد عوض الكريم أبو سن، و زادت من ثقة أحمد باشا أبو ودان في شيخ أحمد مما جعله يدعوه لمشاركته في الحملة الحربية التي كان يزمع القيام بها للسيطرة الكاملة علي أرض التاكا شرق نهر أتبرا و ذلك في مارس من عام 1840/ 1256. كان هدف الحملة هو فرض الأتاوات الباهظة و المكوس العالية علي مزارعي أراضي دلتا القاش في أرضهم الخصبة الغنية. و ما أن حل نوفمبر من ذلك العام حتي تمت السيطرة أيضا علي قبائل الهدندوة القوية و كذلك الحلنقة، و أنشأت مديرية جديدة عاصمتها كسلا. غدت كسلا من بعد ذلك التاريخ مركزا لطائفة دينية (روحية) جديدة هي طائفة الختمية. أسس تلك الطائفة السيد محمد عثمان الميرغني و الذي ربطت بينه و بين أحمد أبو سن علاقة جيدة، و طلب منه الأخير أن يوسط إبنه الحسن الميرغني لتهدئة النزاع بين رجال الشكرية والحسناب.

تم إغتيال أحمد باشا أبو ودان في الأول من أكتوبر عام 1843/ 1259، و ربط البعض ذلك الإغتيال بما أشيع عن اعتزام أبو ودان للتخطيط لفصل السودان و الإنفراد بحكمه. حاولت قبائل المتكناب (؟) في دلتا القاش استغلال الموقف فبدأت تمردا علي الحكومة قام بإخماده في مجزرة رهيبة أحمد باشا المانكلي و الذي كان قد جاء للسودان ليشرف علي تقسيم "حكمدارية السودان" إلي أقاليم متعددة و شبه مستقلة. أجبر أحمد باشا المانكلي كلا من أحمد أبو سن و شيخ عبد القادر الزين و شيوخا آخرين من الجزيرة علي مرافقته في حملته التأديبية الدموية تلك و ظلوا يشاهدون في صمت و عجز المجزرة التي ختم فصولها الدموية في 1844/1260 ظل الحكام الذين تعاقبوا علي حكم السودان من بعد تلك الحملة يعتمدون علي ولاء و مشورة و تعاون هؤلاء الشيوخ في إدارة مناطق النيل الأزرق.

كان أحمد باشا أبو ودان قد بعث بثلاثة حملات نيلية لإستكشاف منابع النيل الأبيض في الفترة بين 1839-42 /1255 -58، و أوضحت تلك الحملات الإستكشافية مدي المنافع التجارية التي يمكن أن تجني من تجارة العاج في بحر الجبل. و في اكتوبر من عام 1850/1266 استدعي عبد اللطيف باشا حاكم عام السودان التجار الأوربيين العاملين في الخرطوم ليحثهم علي تنظيم بعثات تجارية لجلب العاج من مناطق الجنوب، و كان قد أعلن قبل ذلك عن إحتكار الحكومة لتلك التجارة. أعلن الحاكم للتجار الأوربيين أن الحكومة ستأخذ ثلث ما يجلبونه من عاج. كان الشيخ أحمد أبو سن مع الحاكم حينما أعلن ذلك، و بدا أن الحكومة تعتمد علي ولاء الشيخ أحمد و زعماء قبيلته في الحفاظ علي إستقرار الأوضاع فيما أقبل من سنوات. تمت ترقية شيخ عبد القادر إلي رتبة "معاون الحكمدارية"، و التي كانت تعني عمليا وظيفة نائب الحاكم العام، بينما أنعم علي أحمد أبو سن برتبة البكوية.

أورد الرحالة الأميركي جيمس هاملتون أن عوض الكريم أكبر أبناء الشيخ أحمد أبو سن دعاه و هو في طريقه من كسلا للخرطوم عام 1854/ 1270 لمقابلة والده في رفاعة. كتب الرحالة الأميركي عن الشيخ أحمد أبوسن و عن حضوره الطاغي و طوله الفارع و كتب يقول في كتابه عن تلك الرحلة و الصادر في 1857: " وجدت الشيخ باسق القامة مستقيما كعصاة، و له عينان حادتان النظر و لحية بيضاء تتدلي إلي وسطه".

ما أن حل عام 1856/1272 حتي انتشر وباء الكوليرا في البلاد. قضي الوباء علي الكثيرين و منهم القيادات السودانية التي زاملت الشيخ أحمد أبو سن، كان الشيخ حينها في السادسة و الستين من عمره، و كان الخديوي محمد علي قد مات و خلفه إبنه بالتبني إبراهيم باشا و من بعده حفيده عباس الأول (إبن طوسون) ثم محمد سعيد باشا (1854 – 63/ 1270-80). قرر محمد سعيد باشا فور توليه سدة الحكم القيام بزيارة شخصية للسودان. فكر الباشا في أمر حكم السودان و هو يهم بالقيام بتلك الزيارة (و التي كان من المؤمل أن تتم في 1856/1273) و بعد أن سمع عن الأخطار التي كانت تتهدد السودان من الحدود الحبشية و عن تناقص أعداد الجنود السودانيين بفعل وباء الكوليرا المنتشر. كل ذلك دعا الباشا لإعادة النظر في مجمل الوجود العسكري التركي في السودان و عن إمكانية إحلال إدارة أهلية محلية محله تكون تحت السيطرة العسكرية المركزية للأتراك تحت إمرة سرعسكر.

كان ذلك التحول المرتقب محل ترحيب من الشيخ أحمد أبو سن و قبيلته، و كان الشيخ يتوقع – بعد خمسة و ثلاثين عاما من خدمة الحكم المصري-التركي- و بالنظر إلي خبرته و سنه أن ينال، علي الأقل، منصب حاكم سنار إن لم يظفر بمنصب الحاكم العام في الخرطوم. جرت الأمور بغير ما يشتهي الرجل، إذ أن الخديوي و هو في طريق رحلته الطويلة للخرطوم عبر صحراء العتمور هاله ما رأي وقر رأيه علي إجلاء كل المسئولين الأتراك من السودان، و علي التوقف في الخرطوم فقط لتلاوة و إقرار دستور جديد. و في تغيير لرأيه مجددا قرر الخديوي أن يعين أرمنيا مسيحيا هو أركيل بيه الأرماني (30 عاما) كحاكم عام للخرطوم و سنار، و أن يقسم السودان لأربعة أقاليم تكون تحت الإشراف العام لإبن الخديوي أحمد و الذي يشغل منصب وزير الداخلية في القاهرة. لم يقبل الشيخ أحمد أبو سن بهذا الأمر، إذ أنه كان يري أن إختيار شاب مسيحي غريب لحكم السودان يعوزه التوفيق، بل و أعلن صراحة عن معارضته لهذا الإختيار، و عن تأييده للمفتي إبراهيم عبد الدافع في إعتراضه علي إختيار الشاب المسيحي ليحكم مسلمي السودان. غضب أركيل من رفض شيخ أحمد أبو سن لقرار تعيينه فمضي في موكب ضخم نحو شمال البطانة لمواجهة شيخ أحمد. أعد شيخ أحمد موكبا مهيبا من فرسان الشكرية للقاء أركيل. كتب إستيفان رايشموث عن أن وضع سلطة شيخ أحمد كان مهزوزا إذ أن أبناء إخوته و خليفته من بعده الناظر محمد كانوا في الجانب الآخر! لم يسفر اللقاء عن أي حل للمشكلة و التي كانت تنبع أساسا من كون أركيل مسيحي الديانة و ليس من المألوف (حينها) أن يحكم رجل مسيحي قوما مسلمين.

ظل أركيل في الحكم رغم معارضة شيوخ القبائل له خاصة من الزبير ولد شيخ عبد القادر الزين و من التجار المحليين و الذين ضاقوا ذرعا بالإصلاحات الضريبية التي فرضها الحاكم الجديد. لم يثن ذلك أركيل عن القيام بمحاولات جادة للتخفيف من فساد الموطفيين الحكوميين و عبء الضرائب علي الفقراء و منع التعذيب و السجن دون محاكمة. كل ذلك وجد قبولا من عامة الناس فأسموه تحببا "العادل". لم يعمر حكم أركيل طويلا فلقد مات الرجل في 1858/ 1275 بسبب مرض الدوسنتاريا.

إهتزت سلطة أحمد بيه أبو سن كثيرا نسبة لمعارضته لمعارضته قرار الخديوي تنصيب أركيل حاكما، و بسبب ما اشيع أن أحمد بيه كان علي إتصال سري بإمبراطور الحبشة ثيودور الثالث و الذي كان يهدد بغزو السودان. تم إستدعاء أحمد أبو سن و المفتي للقاهرة في 1858/ 1274 حيثا خضعا للإقامة المنزلية الجبرية لمدة ثمانية عشر شهرا. تم العفو عنهما في 1860/ 1277 و في يوليو من العام الذي أعقب ذلك قابل صمويل بيكر (مكتشف فروع نهر النيل) الشيخ أحمد في شرق البطانة. بعد عامين، أي في 1862/ 1279 تم تعيين إسماعيل باشا إبراهيم حاكما لمصر و موسي باشا حمدي كحاكم للسودان. أتي موسي للسودان في أغسطس و معه تعزيزات عسكرية للدفاع عن السودان ضد الغزو الحبشي المحتمل.

إستفاد أحمد بيه أبو سن – و هو في سنوات حياته الأخيرة- من تلك الأحداث. فلقد كان الرجل معروفا لدي موسي باشا حمدي منذ أيام الحملة علي التاكا في 1840/ 1256، و من بعد ذلك حين تم تعيين موسي كحاكم لسنار و الخرطوم في أعوام 1841-3 / 1257-59. إستقبل موسي الشيخ أحمد أبو سن و الذي أتاه لتقديم فروض الولاء و الطاعة، بكل إحترام و تقدير، و أصدر أمرا بتعيينه محافظا للخرطوم و سنار في 1862/ 1279. تنازل بعدها شيخ أحمد عن نظارة الشكرية لإخيه الأصغر علي عوص عبد الكريم. مما سيسجله التاريخ أحمد بيه أبو سن عونه المقدر لموسي حمدي في حملته إلي مناطق فازوغلي و في عونه لآدم باشا العريفي في حملته للدفاع عن كسلا أثناء تمرد عام 1865/ 1282، و عن تدبيره في رفاعة لزواج إبنه الأكبر عوض الكريم من إبنة كبير الهمج (خصوم الشكرية في الماضي). كذلك واجه أحمد أبو سن صراعا حول نظارة القبيلة من الشكرية في شرق البطانة من الحفدة المباشرين لشيخ محمد عوض الكريم ابو سن، بيد أنه نجح في الإحتفاظ بالنظارة في نسله. عند بلوغه الثمانين في عام 1869/ 1286 سافر الشيخ مرة أخري للقاهرة من أجل حضور إفتتاح قناة السويس بيد أن المنية وافته أثناء تلك الرحلة .