أدب المدائح
يعتبر أدب المدائح من صميم الأدب الشعبى لأنه يعكس لنا المعتقدات الدينية والأوهام والمخاوف الغيبية التى سيطرت على العقلية السودانية فى فترة معينة فنستطيع أن نتعرف على المعانى الخلقية التى عملت على توجيه سلوك الفرد . وأدب المدائح مادة غزيرة تمكن الباحث من التوصل إلى معرفة نفسية الشعب من آمال وآلام وأمانى . ولا شك أن البيئة الزراعية وما يصحبها من تخلف فكرى لها أثر فى دفع الفرد إلى الإيمان بالغيبيات لان الفرد فى المجتمعات البدائية غالباً ما يعجز عن تفسير ظواهر الكون يخفيه قصف الرعود والعواصف فهو فى صراع دائم مع الشر ، حياته مليئة بالمخاوف والأوهام ولذلك يلجأ على الإيمان بالغيبيات فيجد لذه روحية وطمأنينة فى حياته . والمدائح التى يفيض بهال كتاب " الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء فى السودان لمؤلفه الشيخ محمد ضيف الله بن محمد الجعلى الفضلى المتوفى سنة 1224 هجرية ، خير برهان على ذلك . أن تلك المدائح تكشف لنا عن نفسية الشعب السودانى فى الأزمان الغابرة من خلال المعتقدات الدينية وتقديس الأولياء والدراويش . ولدينا الآن نموذج حى لأدب المدائح فى السودان وهى قصيدة للسيد محمود الفاضل شيخ حلة المعدلاب مجلس ريفى سنار شرق الكواهله وهو من محبى الشيخ المكاشفى ، والشيخ المكاشفى من كبار الأولياء فى السودان وقد توفى منذ عهد قريب اشتهر بالعلم والزهد وملأصيته الآفاق وقد عالج اناساً كثيرين من الذين يعتقدون فى كراماتة وله " حيران " يتمتعون بكرمة الفياض . نذكر هذه القصيدة هنا لأنها تناقلتها الألسن فهى تكاد تكون ملحمة دينية تصور بطولات الشيخ من علم وزهد وورع وكرم فياض . فالمادح يشكو آلماً ممضاً فى رجله ، وبعد أن عجز فى علاجها اتجه إلى الشيخ المكاشفى حتى يزيل منه الألم ويناجيه من بعيد فى حسرة قاتلة .
يا سماع بعيد بلد الواحيه
خيل الشيخ سراع لصيحة الهوية
ما كشفت الكراع سوت الحكية .
وهنا يتوسل له المادح ويشكو له فقره المدقع .
الزمن طويل والسنة قوية
الحمل تقيل والكسب شويه
والمادح كأنه يحاول ان يقنع نفسه بأن ذلك الشيخ الجليل الذى يهلل فى الثلث الأخير من الليل والذى سبق ان عالج القوب والبرص تلك الأمراض التى عجز الأطباء عن علاجها لابد ان يجد عنده العلاج لأنه ولى يخلص لله ، فلماذا لا تستجاب دعوته .. ؟؟
فى التلت الأخير اسمعوا تهليله
القوب و البرص داوتن حفيره
يمشي بي كرعية و يسبق البطيرو .
و ينتقل المادح يعبر عي اعجابه بالشيخ فهو قد اقتنع بان الشيخ لن يطالبه باجرة العلاج لانه يعين الفقراء ، ويضمد جروح المعوزين .
عاجبانى طبيعته السمحة وظريفة .
ما دار الملك ما تتاوق للوظيفة ما كلف حور داير القطيفة وجسمه بضوى غير صابون وليفة .
البزور بجنيه والبلدى عند النادر واحد ما فرز واحدين .
والشيخ الذى يستفرع فيه المادح كل معايير المدح والإعجاب ويصفه أيضاً بانه يكف عينه عن الهدايا ومع ذلك يحل المشكلات العويصة ، فهذا ما لفت إليه الأنظار ، وجعل الأقوام تهاجر إليه من كل فوج عميق .
عينه ما بتلا حظ لى قرش الهدية
وما بتنفك غيره الشبكة القوية
جالب القيمان من بلود أم بادر
مجمع الأرواح فى مسيد النادر .
أدب النواح
النواح هو بكاء الموتى . وتعداد ماثرهم وفضائلهم والتعبير عما يحس به الرائى من حزن تجاه الفقيد . ولقد كان النواح معروفاً عند العرب فى الجاهلية والإسلام. ويقال ان بعض المغنين كانوا فى مبدأ أمرهم نائحين كابن سريج والغريض والنواح هو غرض له أهميته فى المآثر الشعبية إذ أنه سجل لحياة الاموات فهو يصف الفضائل الحميدة كالكرم والشجاعة والمروءه وبالتالى له أثره فى المجال الخلقى والتربوى لأنه يرفع من الروح المعنوية والرائى كأنما يخض غيره على التمسك بالفضائل التى يرددها فى مصابة الأليم .
وأدب المناحة فى السودان يجب أن تكون موضع اعتبار الباحثين بصفة خاصة فنحن إذا تعمقنا فى المعانى التى تلهج بها النائحه نجد انها تعدد المآثر الحميدة والعادات الأصيلة التى عاشها الشعب السودانى فى فترة من فترات حياته فى السودان جماعية أكثر منها ذاتية أى أننا قلما نعثر على المؤلف الحقيقى للمرثية فغالباً ما تصل إلينا قد علمت فيها عقول الأخرين وتناقلتها الأجيال واضافت عليها مما يلائم حياتها فاستمع إلى هذه الماحة وهى من غرب السودان تذكر النائحة الصفات الكريمة التى كان يتحلى بها موسى ذلك الرجل الذى كان مفحرة القبيلة والذى فاحت ذكراه العطرة من غرب السودان حتى تناقلتها بنات بربر فى الشمالية لقد اشتهر بالشجاعة والعفة وسمو الخلق .
حليل موسى يا حليل موسى حليل موسى اللى رجال خوصة
حليل موسى يوم ركب دفر طلع ظيته شال بنات بربر
حليل موسى مابيا كل الملاح أخضر
حليل موسى ما بشرب الخمر ويسكر
وهنا تصل النائحة إلى القمة فى وصفها للشعور بالحرفة والفراق عبرت عن مندى قلقها ومخاوفها النفسية فى اسلوب يذيب المهج ويستدر العطف .
الليل امس ما بشوف بل يوم فوقنا الحرب تنقلى
الليل أمس ما بشوف زينه ويوم فوقنا الحرب بالزينا
يوم جانا الحصان مجنوب وفوق ضهرو السليب مقلوب
ابكن يا بنات حى وب
حليل موسى ياحليله اليوم حوشة القرقرو البعشوم.
قال الشريف عبد الله ود الفاضل :
زايله وهل هل يالدالى الماك شقير
العد الروى الماقطط النشال وحملك كان تقيال يا اب آمنة ما بنشال
زايله وهل هل يالدالى الماك شقير
يبكنك بناتا جدول دموعن سيل
وهمد ضوهن جضن هوية ليل
زايلة وهل هل ..
يبكنك بناتا ملصن التيلة
حكم السيد رضا لا قدره لا حيله
زايلة وهل هل ..
ومما يجدر ذكره أن ادب المناحة فى السودان على صله وثيقة بالأدب العربى وخاصة الأدب الشعبى العربى القديم فنجد هذه الشاعرة التى ترثى خالها تذكر انه خير من اكرم الضيف وأنه كان يخوض غمار الحروب لا يخشى بأس العدو تقول
يامر ياخير أخ نازعت در الحلمه
ياخير من اوقد للأضياف نارا جحمة
ياجلب الخيل إلى الخيل تعادى إضمه
يا قائد الخيل ومجناب الدلاص الدرمه
سيفك لا يشقى به إلا العسير السمة
جاد على قبرك غيث من سماء رزمه
أدب الأسطــورة
الأساطير هى أثر من اثار الخيال الخصب يضفى على الإنسان متعه ذهنية وقد ترفع الأسطورة الملوك وذوى البطولة الخارقة إلى مرتبة تفوق البشر كأساطير اليونان والفرس والعرب فى تفسيرها لظواهر الحياة وما يكتنفها من غموض فى هذا الكون الفسيح .
ومما يجدر ذكره ان أساس الأساطير فى بدايتها أنما هو عجز الإنسان عن تفسير ظواهر الكون فالإنسان قديماً كان يقف أمام ظواهر هذا الكون العجيب مكتوف الإيدى تذهله أسرار الطبيعة فيفكر فى معنى الوجود ويعمل تفكيره فى حل رموزه وطلاسمه ورسلاً العنان لخياله لخصب ينسج القصص البطولية والملامح التاريخية .
يصف لنا العالم الإنجليزى سيرج .ك جوم الأساطير بانها " تحول لنا علوم ما قبل العلوم " كأن تحدثنا عن علة الخلق ، والأسر الخافية وراء الحيوان . وقد يرى الإنسان العصرى أن الأساطير والخرافات هى غاية فى السذاجة ولكن علماء المأثورات او لوها عناية كبيرة لأنها فى نظرهم " محاولة قديمة بذلها الإنسان الأول ليعرف أسرار الكون" ولا يخفى علينا أن الإنسان العصرى بالرغم من تقدمه فى العلوم والفنون يلجأ إلى تلك المحاولات القديمة فى حبك الأساطير بل أن أساس العلوم هو خيال خصب يغوص فى الأعماق ويتطلع إلى الفضاء ليهتدى إلى الحقيقة . والأسطورة تنقسم إلى قسمين أسطورة خرافية تستند إلى الخيال فى تفسير ظاهرة الكون والطبيعة ( اسطورة تعتمد على شعور البشر ، وتصور احساس الجماعة متخذه منها أسوه وعبره فى اسلوب تحليلى يبرز لنا نفسية النماذج البشرية وهذا النوع من الأساطير بدراستنا اتصالاً وثيقاً إذ أنه مادة فولكلورية من صميم الادب الشعبى ومن هنا نتبين صلة الأسطورة بالتراث الشعبى فهى تصوير للنشاط والسلوك الإنسانى الجماعى هذا النوع من الأسطورة يعكس لنا تاريخ الأمة وآمالها وأمانيها يقول الدكتور عبد الحميد يونس معبراً عن اساس التفريق بين الأسطورة الكونية والأسطورة التى تحلل السلوك الجماعى " أن الأساس فى التفريق هو الأساس الوظيفى فإذا تجاوزت الأسطورة وظيفتها الأولى وعدتها إلى وظيفة أخرى وانفرطت عقدتها وتداخلت عناصرها فيما يصدر عن العاديين من ضروب النشاط والسلوك لم تعد مادة أسطورية بالمعنى الصحيح إنما أصبحت مادة فولكلورية "
الاسطورة فى أفريقيا
الأسطورة كما سبق أن أوضحنا هى عبار عن نظام تعليمى دقيق ففى أفريقيا مثلاً نجد الاسطورة أداة تثقيفية تقوم مقام المحاضرات التى تلقى فى الجامعات الحديثة فالجلوس حول مواقد النيران والأسمار فى الليالى المقمرة هى فى الواقع أعظم بيئة مدرسية.
يسرد الرجل المسن أو المرأة المسنة تراث الأجداد فى قالب تمثيلى بطريقة مشوقة فمثلاً الراوى " الباليوت" كما يطلق عليه القرويون فى وسعة أن يعود بتاريخ القرية إلى قرنين أو ثلاثة قرون مضت يقص الأحداث التاريخية ، ويشرح العادات القديمة فيتنبأ بمستقبل القرية ومدى التغيرات التى تطرأ عليها فهو حكيم القرية وفيلسوفها ، كما يتوارث الأبناء عن الآباء بطريق التقليد المهارة الفنية كالحدادة والبناء ويعرفوا شيئا عن الوحوش.
يقول و . ف برتون مؤلف كتاب من الفولكلور الإفريقى " والحق الحكايات التى تروى حول مواقد النيران لتعد بداية صالحة ودقيقة لحياة الغابة بالإضافة إلى هذا النوع من التعليم الذى وصفته هناك أساليب متناهية للاندماج الاجتماعى مثل الأساليب التى يتعلمها الرجل الأبيض سواء من الوازع الدينى أو من خبرة الحياة القاسية " ويقول فى موضوع آخر " أن الإفريقى هو أمير الحكاية الخرافية بلا منازع ، وأن الذين قاموابدراسة اللغات الإفريقية التى تعد اداة تثقيفية وتحلل النفسية الإفريقية منذ أقدم العصور فأسطورة الأبيض والأسود هى قصة خيالية مازال يرددها سكان الكونغو دمغ المؤلف بهذه الحكاية الذين ينكرون التراث الأفريقى حيث قال ممهداً لدراسته " سوف تكون هذه الحكاية مبعث دهشة للقارئ الذى يعتقد أن من لم يؤت حظا من التعليم الأوربى غير متحضر او " بربرى " ذلك لأنه يفترض أن مستوى التعليم الاوربى هو وحده الذى يدل على مدى تقدم الأمة " لكى لا نطيل على القارئ نعرض عليه أسطورة الأبيض والاسود ، وندعه يقارن ويحكم بنفسه مع ملاحظة " ان هذه الحكايات السيقة بروايتها " البامفومى " العجوز وهو نصف عريان وسط اعمدة الدخان المتصاعدة من النيران " حيث تمثل أشجار الغابة المظلمة خلفية الصور وحيث صرير الحشرات ونقيق الضفادع فى الجداول وصرخات ابن آوى تأتى من بعيد " .
أسطورة الأبيض والأسود
" عندما كان الروح العظيم بصدد ان يخصص لكل مخلوق عمله فى الحياة استدعى إليه الرجل الأسود والرجل الأبيض ووضع أمامها صندوقين ولما كان الروح العظيم يحب الرجل الأسود فقد اعطاه أولوية الأختيار . فرأى الرجل الأسود أن أحد الصندوقين كبير وثقيل وأن الصندوق الآخر صغير وخفيف .. لذا اختار الثقيل وجاهد حتى حمله على كتفه وذهب به إلى بيته فوجدبه المعول وجرة الماء والعصا فخرج إلى الحديقة ليزرعها إلى النهر ليحمل ماءه وإلى الغابة يجمع الأشجار وما تجود به من ثمار وسخط الرجل الأبيض فى بداية الأمر لان الروح العظيم قد منح الرجل الأسود فرصة الاختيار .. وفتح الرجل الأبيض صندوقه فوجد به قلماً وورقة .. فوضع القلم هلف أذنه والورقة فى جيبه وكان كلما تعلم شيئا جدياً دونه على الورق .. ومات الرجل الأسود الأول .. وضاعت تجاربه معه ومات الرجل الأبيض الأول فبقيت تجاربه مدونه محفوظة . إن الرجل الأبيض يحقد علينا لأن الروح العظيم اعطانا فرصة الاختيار قبله .. فحرمنا من العلم والمعرفة .. وصار علينا ان نحصل على القلم والورق إلى جانب الفأس والعصا .. ".
والأدب الشعبى السودانى ملئ بالأقاصيص الشعبية والملاحم التاريخية والأساطير والأحاجى ولكن للأسف لم يعنى بها الباحثون فهى لا تزال تكتمها الصدور فى المدن والقرى ما عدا بعض المحاولات البسيطة التى يبذلها بعض كتابنا فى داخل البلاد وخارجها لنشر التراث الشعبى .
فنحن إذا ما اتجهنا إلى المسنين فى القرى لوجدنا عندهم اساطير وقصص شعبية من صميم بيئتنا السودانية تعكس لنا تاريخ بلادنا فى ثوب نظيف وتمد الأجيال القادمة بطاقة معنوية من تراث الاجداد المقدس. ان الأحاجي والحكاوي الشعبية التي تنقشها المرأة المسنة في ذاكرة الطفل، انما هي تاريخ الأجيال، وعصارة التجارب الانسانية التي اكتسبها اسلافنا في الماضي، وبلادنا غنية بالمواد الفلولكورية، والفنون الشعبية الأصلية، ذلك لأن بلادنا بطبيعتها قطر زراعي له قيمة ومثله التي تحافظ علي كيانة، وتحميه من الانقراض والفناء.
وقديما تشبعت العقلية السودانية بافكار وأديان، وحضارات. عبدنا آلهة المصريين، وانتجنا الحضارة النوبية العريقة بقيادة الفرعون النوبي السوداني بعانخي، تقلبنا الديانة المسيحية، واخيرا ارتضينا الاسلام دينا. لا شك ان هذا التراث الذي توار ثناه من الاسلاف كفيل بأن ينير الطريق للأجيال اللاحقة.
والباحث في هذا للون الشعبي يمكنه أن يعثر علي ضالته في النقشات الأثرية، والصناعات الشعبية التي لم تتأثر بالآلة، يمكنه ايضا أن يدرس الاغاني الشعبية والمدائح الصوفية، وسيجد ما يغنيه في الأساطير والقصص الشعبية ، كأسطورة تاجوج مثلا ، كما أنه يمكن للباحث أن يستقصي حكم الشيخ فرح ودتكتوك، ونوادر البصيرة ام حمد ، وبطولة ود النمير ، وشعر الحا دلو، ونوادر العجب أمه.
وتوجد ظاهرة هامه في ادبنا الشعبي ، وهي تأثر الأدب الشعبي السوداني شخصيات وحوادث الشعوب العربية الأخري. وذلك ناتج عن الهجرات العربية الكثيرة التي قامت بها بعض القبائل العربية الي السودان من طريق البحر الأحمر والبعض الآخر من طريق صحراء مصر الشرقية أو وادى النيل، فيحكم موقعه الجغرافي ، وبحكم مواقفة التاريخية من جاراته البلاد العربية ، تأثر بأقاصيص عربية شعبية أصلية، كمقصص أبي زيد الهلالي، وحكاية يونس في تونس وبطولات عنترة بن شداد فهذه الحكاوي لازالت تنتقل من ثغور الشيوخ الي الشباب في السودان، وهي أثر مادى لا متزاج تراثنا الشعبي السوداني بالتراث الشعبي منذ قديم الزمان .
يعتبر أدب المدائح من صميم الأدب الشعبى لأنه يعكس لنا المعتقدات الدينية والأوهام والمخاوف الغيبية التى سيطرت على العقلية السودانية فى فترة معينة فنستطيع أن نتعرف على المعانى الخلقية التى عملت على توجيه سلوك الفرد . وأدب المدائح مادة غزيرة تمكن الباحث من التوصل إلى معرفة نفسية الشعب من آمال وآلام وأمانى . ولا شك أن البيئة الزراعية وما يصحبها من تخلف فكرى لها أثر فى دفع الفرد إلى الإيمان بالغيبيات لان الفرد فى المجتمعات البدائية غالباً ما يعجز عن تفسير ظواهر الكون يخفيه قصف الرعود والعواصف فهو فى صراع دائم مع الشر ، حياته مليئة بالمخاوف والأوهام ولذلك يلجأ على الإيمان بالغيبيات فيجد لذه روحية وطمأنينة فى حياته . والمدائح التى يفيض بهال كتاب " الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء فى السودان لمؤلفه الشيخ محمد ضيف الله بن محمد الجعلى الفضلى المتوفى سنة 1224 هجرية ، خير برهان على ذلك . أن تلك المدائح تكشف لنا عن نفسية الشعب السودانى فى الأزمان الغابرة من خلال المعتقدات الدينية وتقديس الأولياء والدراويش . ولدينا الآن نموذج حى لأدب المدائح فى السودان وهى قصيدة للسيد محمود الفاضل شيخ حلة المعدلاب مجلس ريفى سنار شرق الكواهله وهو من محبى الشيخ المكاشفى ، والشيخ المكاشفى من كبار الأولياء فى السودان وقد توفى منذ عهد قريب اشتهر بالعلم والزهد وملأصيته الآفاق وقد عالج اناساً كثيرين من الذين يعتقدون فى كراماتة وله " حيران " يتمتعون بكرمة الفياض . نذكر هذه القصيدة هنا لأنها تناقلتها الألسن فهى تكاد تكون ملحمة دينية تصور بطولات الشيخ من علم وزهد وورع وكرم فياض . فالمادح يشكو آلماً ممضاً فى رجله ، وبعد أن عجز فى علاجها اتجه إلى الشيخ المكاشفى حتى يزيل منه الألم ويناجيه من بعيد فى حسرة قاتلة .
يا سماع بعيد بلد الواحيه
خيل الشيخ سراع لصيحة الهوية
ما كشفت الكراع سوت الحكية .
وهنا يتوسل له المادح ويشكو له فقره المدقع .
الزمن طويل والسنة قوية
الحمل تقيل والكسب شويه
والمادح كأنه يحاول ان يقنع نفسه بأن ذلك الشيخ الجليل الذى يهلل فى الثلث الأخير من الليل والذى سبق ان عالج القوب والبرص تلك الأمراض التى عجز الأطباء عن علاجها لابد ان يجد عنده العلاج لأنه ولى يخلص لله ، فلماذا لا تستجاب دعوته .. ؟؟
فى التلت الأخير اسمعوا تهليله
القوب و البرص داوتن حفيره
يمشي بي كرعية و يسبق البطيرو .
و ينتقل المادح يعبر عي اعجابه بالشيخ فهو قد اقتنع بان الشيخ لن يطالبه باجرة العلاج لانه يعين الفقراء ، ويضمد جروح المعوزين .
عاجبانى طبيعته السمحة وظريفة .
ما دار الملك ما تتاوق للوظيفة ما كلف حور داير القطيفة وجسمه بضوى غير صابون وليفة .
البزور بجنيه والبلدى عند النادر واحد ما فرز واحدين .
والشيخ الذى يستفرع فيه المادح كل معايير المدح والإعجاب ويصفه أيضاً بانه يكف عينه عن الهدايا ومع ذلك يحل المشكلات العويصة ، فهذا ما لفت إليه الأنظار ، وجعل الأقوام تهاجر إليه من كل فوج عميق .
عينه ما بتلا حظ لى قرش الهدية
وما بتنفك غيره الشبكة القوية
جالب القيمان من بلود أم بادر
مجمع الأرواح فى مسيد النادر .
أدب النواح
النواح هو بكاء الموتى . وتعداد ماثرهم وفضائلهم والتعبير عما يحس به الرائى من حزن تجاه الفقيد . ولقد كان النواح معروفاً عند العرب فى الجاهلية والإسلام. ويقال ان بعض المغنين كانوا فى مبدأ أمرهم نائحين كابن سريج والغريض والنواح هو غرض له أهميته فى المآثر الشعبية إذ أنه سجل لحياة الاموات فهو يصف الفضائل الحميدة كالكرم والشجاعة والمروءه وبالتالى له أثره فى المجال الخلقى والتربوى لأنه يرفع من الروح المعنوية والرائى كأنما يخض غيره على التمسك بالفضائل التى يرددها فى مصابة الأليم .
وأدب المناحة فى السودان يجب أن تكون موضع اعتبار الباحثين بصفة خاصة فنحن إذا تعمقنا فى المعانى التى تلهج بها النائحه نجد انها تعدد المآثر الحميدة والعادات الأصيلة التى عاشها الشعب السودانى فى فترة من فترات حياته فى السودان جماعية أكثر منها ذاتية أى أننا قلما نعثر على المؤلف الحقيقى للمرثية فغالباً ما تصل إلينا قد علمت فيها عقول الأخرين وتناقلتها الأجيال واضافت عليها مما يلائم حياتها فاستمع إلى هذه الماحة وهى من غرب السودان تذكر النائحة الصفات الكريمة التى كان يتحلى بها موسى ذلك الرجل الذى كان مفحرة القبيلة والذى فاحت ذكراه العطرة من غرب السودان حتى تناقلتها بنات بربر فى الشمالية لقد اشتهر بالشجاعة والعفة وسمو الخلق .
حليل موسى يا حليل موسى حليل موسى اللى رجال خوصة
حليل موسى يوم ركب دفر طلع ظيته شال بنات بربر
حليل موسى مابيا كل الملاح أخضر
حليل موسى ما بشرب الخمر ويسكر
وهنا تصل النائحة إلى القمة فى وصفها للشعور بالحرفة والفراق عبرت عن مندى قلقها ومخاوفها النفسية فى اسلوب يذيب المهج ويستدر العطف .
الليل امس ما بشوف بل يوم فوقنا الحرب تنقلى
الليل أمس ما بشوف زينه ويوم فوقنا الحرب بالزينا
يوم جانا الحصان مجنوب وفوق ضهرو السليب مقلوب
ابكن يا بنات حى وب
حليل موسى ياحليله اليوم حوشة القرقرو البعشوم.
قال الشريف عبد الله ود الفاضل :
زايله وهل هل يالدالى الماك شقير
العد الروى الماقطط النشال وحملك كان تقيال يا اب آمنة ما بنشال
زايله وهل هل يالدالى الماك شقير
يبكنك بناتا جدول دموعن سيل
وهمد ضوهن جضن هوية ليل
زايلة وهل هل ..
يبكنك بناتا ملصن التيلة
حكم السيد رضا لا قدره لا حيله
زايلة وهل هل ..
ومما يجدر ذكره أن ادب المناحة فى السودان على صله وثيقة بالأدب العربى وخاصة الأدب الشعبى العربى القديم فنجد هذه الشاعرة التى ترثى خالها تذكر انه خير من اكرم الضيف وأنه كان يخوض غمار الحروب لا يخشى بأس العدو تقول
يامر ياخير أخ نازعت در الحلمه
ياخير من اوقد للأضياف نارا جحمة
ياجلب الخيل إلى الخيل تعادى إضمه
يا قائد الخيل ومجناب الدلاص الدرمه
سيفك لا يشقى به إلا العسير السمة
جاد على قبرك غيث من سماء رزمه
أدب الأسطــورة
الأساطير هى أثر من اثار الخيال الخصب يضفى على الإنسان متعه ذهنية وقد ترفع الأسطورة الملوك وذوى البطولة الخارقة إلى مرتبة تفوق البشر كأساطير اليونان والفرس والعرب فى تفسيرها لظواهر الحياة وما يكتنفها من غموض فى هذا الكون الفسيح .
ومما يجدر ذكره ان أساس الأساطير فى بدايتها أنما هو عجز الإنسان عن تفسير ظواهر الكون فالإنسان قديماً كان يقف أمام ظواهر هذا الكون العجيب مكتوف الإيدى تذهله أسرار الطبيعة فيفكر فى معنى الوجود ويعمل تفكيره فى حل رموزه وطلاسمه ورسلاً العنان لخياله لخصب ينسج القصص البطولية والملامح التاريخية .
يصف لنا العالم الإنجليزى سيرج .ك جوم الأساطير بانها " تحول لنا علوم ما قبل العلوم " كأن تحدثنا عن علة الخلق ، والأسر الخافية وراء الحيوان . وقد يرى الإنسان العصرى أن الأساطير والخرافات هى غاية فى السذاجة ولكن علماء المأثورات او لوها عناية كبيرة لأنها فى نظرهم " محاولة قديمة بذلها الإنسان الأول ليعرف أسرار الكون" ولا يخفى علينا أن الإنسان العصرى بالرغم من تقدمه فى العلوم والفنون يلجأ إلى تلك المحاولات القديمة فى حبك الأساطير بل أن أساس العلوم هو خيال خصب يغوص فى الأعماق ويتطلع إلى الفضاء ليهتدى إلى الحقيقة . والأسطورة تنقسم إلى قسمين أسطورة خرافية تستند إلى الخيال فى تفسير ظاهرة الكون والطبيعة ( اسطورة تعتمد على شعور البشر ، وتصور احساس الجماعة متخذه منها أسوه وعبره فى اسلوب تحليلى يبرز لنا نفسية النماذج البشرية وهذا النوع من الأساطير بدراستنا اتصالاً وثيقاً إذ أنه مادة فولكلورية من صميم الادب الشعبى ومن هنا نتبين صلة الأسطورة بالتراث الشعبى فهى تصوير للنشاط والسلوك الإنسانى الجماعى هذا النوع من الأسطورة يعكس لنا تاريخ الأمة وآمالها وأمانيها يقول الدكتور عبد الحميد يونس معبراً عن اساس التفريق بين الأسطورة الكونية والأسطورة التى تحلل السلوك الجماعى " أن الأساس فى التفريق هو الأساس الوظيفى فإذا تجاوزت الأسطورة وظيفتها الأولى وعدتها إلى وظيفة أخرى وانفرطت عقدتها وتداخلت عناصرها فيما يصدر عن العاديين من ضروب النشاط والسلوك لم تعد مادة أسطورية بالمعنى الصحيح إنما أصبحت مادة فولكلورية "
الاسطورة فى أفريقيا
الأسطورة كما سبق أن أوضحنا هى عبار عن نظام تعليمى دقيق ففى أفريقيا مثلاً نجد الاسطورة أداة تثقيفية تقوم مقام المحاضرات التى تلقى فى الجامعات الحديثة فالجلوس حول مواقد النيران والأسمار فى الليالى المقمرة هى فى الواقع أعظم بيئة مدرسية.
يسرد الرجل المسن أو المرأة المسنة تراث الأجداد فى قالب تمثيلى بطريقة مشوقة فمثلاً الراوى " الباليوت" كما يطلق عليه القرويون فى وسعة أن يعود بتاريخ القرية إلى قرنين أو ثلاثة قرون مضت يقص الأحداث التاريخية ، ويشرح العادات القديمة فيتنبأ بمستقبل القرية ومدى التغيرات التى تطرأ عليها فهو حكيم القرية وفيلسوفها ، كما يتوارث الأبناء عن الآباء بطريق التقليد المهارة الفنية كالحدادة والبناء ويعرفوا شيئا عن الوحوش.
يقول و . ف برتون مؤلف كتاب من الفولكلور الإفريقى " والحق الحكايات التى تروى حول مواقد النيران لتعد بداية صالحة ودقيقة لحياة الغابة بالإضافة إلى هذا النوع من التعليم الذى وصفته هناك أساليب متناهية للاندماج الاجتماعى مثل الأساليب التى يتعلمها الرجل الأبيض سواء من الوازع الدينى أو من خبرة الحياة القاسية " ويقول فى موضوع آخر " أن الإفريقى هو أمير الحكاية الخرافية بلا منازع ، وأن الذين قاموابدراسة اللغات الإفريقية التى تعد اداة تثقيفية وتحلل النفسية الإفريقية منذ أقدم العصور فأسطورة الأبيض والأسود هى قصة خيالية مازال يرددها سكان الكونغو دمغ المؤلف بهذه الحكاية الذين ينكرون التراث الأفريقى حيث قال ممهداً لدراسته " سوف تكون هذه الحكاية مبعث دهشة للقارئ الذى يعتقد أن من لم يؤت حظا من التعليم الأوربى غير متحضر او " بربرى " ذلك لأنه يفترض أن مستوى التعليم الاوربى هو وحده الذى يدل على مدى تقدم الأمة " لكى لا نطيل على القارئ نعرض عليه أسطورة الأبيض والاسود ، وندعه يقارن ويحكم بنفسه مع ملاحظة " ان هذه الحكايات السيقة بروايتها " البامفومى " العجوز وهو نصف عريان وسط اعمدة الدخان المتصاعدة من النيران " حيث تمثل أشجار الغابة المظلمة خلفية الصور وحيث صرير الحشرات ونقيق الضفادع فى الجداول وصرخات ابن آوى تأتى من بعيد " .
أسطورة الأبيض والأسود
" عندما كان الروح العظيم بصدد ان يخصص لكل مخلوق عمله فى الحياة استدعى إليه الرجل الأسود والرجل الأبيض ووضع أمامها صندوقين ولما كان الروح العظيم يحب الرجل الأسود فقد اعطاه أولوية الأختيار . فرأى الرجل الأسود أن أحد الصندوقين كبير وثقيل وأن الصندوق الآخر صغير وخفيف .. لذا اختار الثقيل وجاهد حتى حمله على كتفه وذهب به إلى بيته فوجدبه المعول وجرة الماء والعصا فخرج إلى الحديقة ليزرعها إلى النهر ليحمل ماءه وإلى الغابة يجمع الأشجار وما تجود به من ثمار وسخط الرجل الأبيض فى بداية الأمر لان الروح العظيم قد منح الرجل الأسود فرصة الاختيار .. وفتح الرجل الأبيض صندوقه فوجد به قلماً وورقة .. فوضع القلم هلف أذنه والورقة فى جيبه وكان كلما تعلم شيئا جدياً دونه على الورق .. ومات الرجل الأسود الأول .. وضاعت تجاربه معه ومات الرجل الأبيض الأول فبقيت تجاربه مدونه محفوظة . إن الرجل الأبيض يحقد علينا لأن الروح العظيم اعطانا فرصة الاختيار قبله .. فحرمنا من العلم والمعرفة .. وصار علينا ان نحصل على القلم والورق إلى جانب الفأس والعصا .. ".
والأدب الشعبى السودانى ملئ بالأقاصيص الشعبية والملاحم التاريخية والأساطير والأحاجى ولكن للأسف لم يعنى بها الباحثون فهى لا تزال تكتمها الصدور فى المدن والقرى ما عدا بعض المحاولات البسيطة التى يبذلها بعض كتابنا فى داخل البلاد وخارجها لنشر التراث الشعبى .
فنحن إذا ما اتجهنا إلى المسنين فى القرى لوجدنا عندهم اساطير وقصص شعبية من صميم بيئتنا السودانية تعكس لنا تاريخ بلادنا فى ثوب نظيف وتمد الأجيال القادمة بطاقة معنوية من تراث الاجداد المقدس. ان الأحاجي والحكاوي الشعبية التي تنقشها المرأة المسنة في ذاكرة الطفل، انما هي تاريخ الأجيال، وعصارة التجارب الانسانية التي اكتسبها اسلافنا في الماضي، وبلادنا غنية بالمواد الفلولكورية، والفنون الشعبية الأصلية، ذلك لأن بلادنا بطبيعتها قطر زراعي له قيمة ومثله التي تحافظ علي كيانة، وتحميه من الانقراض والفناء.
وقديما تشبعت العقلية السودانية بافكار وأديان، وحضارات. عبدنا آلهة المصريين، وانتجنا الحضارة النوبية العريقة بقيادة الفرعون النوبي السوداني بعانخي، تقلبنا الديانة المسيحية، واخيرا ارتضينا الاسلام دينا. لا شك ان هذا التراث الذي توار ثناه من الاسلاف كفيل بأن ينير الطريق للأجيال اللاحقة.
والباحث في هذا للون الشعبي يمكنه أن يعثر علي ضالته في النقشات الأثرية، والصناعات الشعبية التي لم تتأثر بالآلة، يمكنه ايضا أن يدرس الاغاني الشعبية والمدائح الصوفية، وسيجد ما يغنيه في الأساطير والقصص الشعبية ، كأسطورة تاجوج مثلا ، كما أنه يمكن للباحث أن يستقصي حكم الشيخ فرح ودتكتوك، ونوادر البصيرة ام حمد ، وبطولة ود النمير ، وشعر الحا دلو، ونوادر العجب أمه.
وتوجد ظاهرة هامه في ادبنا الشعبي ، وهي تأثر الأدب الشعبي السوداني شخصيات وحوادث الشعوب العربية الأخري. وذلك ناتج عن الهجرات العربية الكثيرة التي قامت بها بعض القبائل العربية الي السودان من طريق البحر الأحمر والبعض الآخر من طريق صحراء مصر الشرقية أو وادى النيل، فيحكم موقعه الجغرافي ، وبحكم مواقفة التاريخية من جاراته البلاد العربية ، تأثر بأقاصيص عربية شعبية أصلية، كمقصص أبي زيد الهلالي، وحكاية يونس في تونس وبطولات عنترة بن شداد فهذه الحكاوي لازالت تنتقل من ثغور الشيوخ الي الشباب في السودان، وهي أثر مادى لا متزاج تراثنا الشعبي السوداني بالتراث الشعبي منذ قديم الزمان .